ومبشريها ومستشرقيها ؛ لأن اللغات العامية تختلف في البلاد العربية اختلافا شديدا يكاد يجعل من كل لهجة منها لغة مستقلة. وإذا انهزمت أمامها اللغة المشتركة وهي الفصحى استحال التفاهم وضعفت العقيدة وانقطعت الصلة وتفرقت الوحدة وتبددت القوة واستطاع المستعمر أن يلتقمها لقمة لقمة فلا يغص ولا يشجى. ولكن هذه الدعوة فشلت بضعف الاستعمار في الشرق ، وقوة الوعي في العرب. وأما الجهل وهو الأصل الآخر لمحنة اللغة العربية فقد خلف الاستعمار في هذه الدعوة المجرمة ، والمراد بالجهل جهل أبناء العربية بها ، وعزوفهم عن علومها وأدبها ، وهو جناية المدرسة المدنية الحديثة ، فقد فشلت بعد طول الزمن وكثرة التجارب في تخريج القارىء الذي يقرأ بفهم ، والكاتب الذي يكتب عن علم ، والمفكر الذي يفكر عن أصالة ، وليس أدل على هذا الفشل من أن الطالب يتعلم النحو عشر سنين دأبا ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يعبر عن فكره تعبيرا صحيحا لا بلسانه ولا بقلمه ، فإذا دفعه استعداده الأدبي إلى الكتابة آثر العامية على الفصحى ودعا إلى التحلل من القواعد والقيود ليجعل الفوضى نظاما والخطأ مذهبا والعجز شركة. كانت علوم العربية تدرس في الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي وفيما يجري على منهجه من معاهد لبنان وسورية والعراق والمغرب دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ وفقه ما يعلم وتعليل ما ينقد وتحليل ما يذوق. فإذا اتصل النظر بالعمل واقترن الحكم بالتطبيق وصادف ذلك استعدادا في المتعلم ظهر الكاتب الذي يكتب فيجيد ، والشاعر الذي ينظم فيبدع ، والناقد الذي يحكم فيصيب ، أما إذا فتر الاجتهاد وضعف الاستعداد ظهر الأديب العالم الذي يهيء الوسائل ويقرب المناهل ويوجه المواهب ويسدد الخطى ، ومن هاتين الفئتين تستمد الحركة الأدبية عناصرها الحيوية فتقوى لتزدهر وتنمو لتنتشر وتسمو لتخلد. وكان من خريجي هذا المنهج القديم أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة وجددوا شباب الأدب وأسسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة ، ولا