وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد ، فأقفلوا أبوابه ورضوا بالتقليد وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم ، وابتعدوا عن الناس ، فجهلوا الحياة وجهلهم الناس ، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الحديث ، وما جد في الحياة من علم ، وما جد فيها من مذاهب وآراء ، فأعرض الناس عنهم ، ونقموا هم على الناس ، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له.
ولما فترت همة المتأخرين من العلماء عن التأليف. عمدوا الى مصنفات السلف الصالح رضوان الله عليهم وشرحوها ، ثم عمدوا إلى الشرح فشرحوها ، وسموا ذلك حاشية ، ثم عمدوا الى الحواشي فشرحوها وسموا ذلك تقريرا ، فتحصل عندهم متن هو أصل المصنف ، وشرح ، وشرح شرح ، وشرح شرح الشرح ، وكانت النتيجة أن تطرق الإبهام الى المعاني الأصلية ، واضطربت المباحث ، واختلت التراكيب ، وتعقدت العبارات ، واختفى مراد المصنف.
وورث الأزهر من هذا التعقيد العناية بالمناقشة اللفظية ، وتتبع كلمات المؤلفين في المصنفات والشروح والحواشي والتقارير ، وتغلبت هذه العناية اللفظية على الروح العلمية الموضوعية ، وصرفت الذهن عن الفكرة الأصلية الى ما يتصل بها من ألفاظ وعبارات.
واتجه العلماء إلى الاشتغال بالفروض والاحتمالات العقلية التي لا تقع وما يتصل بها من أحكام ، وعلى الأخص في العبادات والمعاملات ، وبدأوا يصنفون الرسائل في هذه الفروض والاحتمالات ؛ وبذلك انصرفوا عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم.
وانصرف الأزهر في هذه الحقبة المظلمة عن دراسة العلوم الرياضية والعقلية ، ووجد فيه من ينادي بتحريمها ؛ وهكذا بدت بوادر الانحلال في الأزهر ، وانقطعت صلته بماضيه الزاهر ، ووقفت حركة التفكير العلمي ،