واستقرّ بعده في وزارة الظافر ، وكان بين ناصر الدين نصر بن عباس الوزير ، وبين الظافر ، مودّة أكيدة ومخالطة ، بحيث كان الظافر يشتغل به عن كل أحد ، ويخرج من قصره إلى دار نصر بن عباس التي هي اليوم المدرسة السيوفية ، فخاف عباس من جرأة ابنه ، وخشي أن يحمله الظافر على قتله ، فيقتله كما قتل الوزير علي بن السلار زوج جدّته أمّ عباس ، فنهاه عن ذلك وألحف في تأنيبه ، وأفرط في لومه ، لأنّ الأمراء كانوا مستوحشين من عباس وكارهين منه تقريبه أسامة بن منقد ، لما علموه من أنه هو الذي حسّن لعباس قتل ابن السلار كما هو مذكور في خبره ، وهمّوا بقتله ، وتحدّثوا مع الخليفة الظافر في ذلك ، فبلغ أسامة ما هم عليه ، وكان غريبا من الدولة ، فأخذ يغري الوزير عباس بن تميم بابنه نصر ، ويبالغ في تقبيح مخالطته للظافر إلى أن قال لي مرة : كيف تصبر على ما يقول الناس في حق ولدك ، من أنّ الخليفة يفعل به ما يفعل بالنساء ، فأثّر ذلك في قلب عباس ، واتفق أنّ الظافر أنعم بمدينة قليوب (١) على نصر بن عباس ، فلما حضر إلى أبيه وأعلمه بذلك وأسامة حاضر ، فقال له : يا ناصر الدين ، ما هي بمهرك غالية ، يعرّض له بالفحش ، فأخذ عباس من ذلك ما أخذه ، وتحدّث مع أسامة لثقته به في كيفية الخلاص من هذا ، فأشار عليه بقتل الظافر إذا جاء إلى دار نصر على عادته في الليل ، فأمره بمفاوضة ابنه نصر في ذلك ، فاغتنمها أسامة ، وما زال بنصر يشنع عليه ويحرّضه على قتل الظافر ، حتى وعده بذلك.
فلما كان ليلة الخميس آخر المحرّم ، من سنة تسع وأربعين وخمسمائة ، خرج الظافر من قصره متنكرا ومعه خادمان ، كما هي عادته ، ومشى إلى دار نصر بن عباس ، فإذا به قد أعدّ له قوما ، فعند ما صار في داخل داره وثبوا عليه وقبّلوه هو وأحد الخادمين ، وتوارى عنهم الخادم الآخر ، ولحق بعد ذلك بالقصر. ثم دفنوا الظافر والخادم تحت الأرض ، في الموضع الذي فيه الآن المسجد ، وكان سنّة يوم قتل ، إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر ونصف ، منها في الخلافة بعد أبيه أربع سنين وثمانية أشهر تنقص خمسة أيام ، وكان محكوما عليه في خلافته.
وفي أيامه ملك الفرنج مدينة عسقلان ، وظهر الوهن في الدولة ، وكان كثير اللهو واللعب ، وهو الذي أنشأ الجامع المعروف بجامع الفاكهيين.
وبلغ أهل القصر ما عمله نصر بن عباس من قتل الظافر ، فكاتبوا طلائع بن رزبك ، وكان على الأشمونين ، وبعثوا إليه بشعور النساء يستصرخون به على عباس وابنه ، فقدم بالجموع ، وفرّ عباس وأسامة ونصر ، ودخل طلائع وعليه ثياب سود ، وأعلامه وبنوده كلها سود ، وشعور النساء التي أرسلت إليه من القصر على الرماح ، فكان فألا عجيبا ، فإنه بعد خمس عشرة سنة ، دخلت أعلام بني العباس السود من بغداد إلى القاهرة لما مات العاضد ،
__________________
(١) قليوب : مدينة مصرية.