باق إلى هذا الوقت ، والماء محيط بها ، وكان أهل القرى التي في هذه البحيرة ينقلون موتاهم إلى تنيس ، فنبشوهم واحدا بعد واحد ، وكان استحكام غرق هذه الأرض بأجمعها قبل أن تفتح مصر بمائة سنة. قال : وقد كان لملك من الملوك التي كانت دارها ، الفرما مع أركون من أراكنة : البلينا ، وما اتصل بها من الأرض ، حروب عملت فيها خنادق وخلجان فتحت من النيل إلى البحر يمتنع بها كل واحد من الآخر ، وكان ذلك داعيا لتشعب الماء من النيل واستيلائه على هذه الأرض.
وقال في كتاب أخبار الزمان : وكانت تنيس عظيمة لها مائة باب ، وقال ابن بطلان : تنيس بلد صغير على جزيرة في وسط البحر ، ميله إلى الجنوب عن وسط الإقليم الرابع ، خمس درج ، وأرضه سبخة ، وهواؤه مختلف ، وشرب أهله من مياه مخزونة في صهاريج تملأ في كل سنة عند عذوبة مياه البحر بدخول ماء النيل إليها ، وجميع حاجاتها مجلوبة إليها في المراكب ، وأكثر أغذية أهلها السمك والجبن وألبان البقر ، فإنّ ضمان الجبن السلطانيّ سبعمائة دينار حسابا عن كل ألف قالب دينار ونصف ، وضمان السمك عشرة آلاف دينار ، وأخلاق أهلها سهلة منقادة ، وطبائعهم مائلة إلى الرطوبة والأنوثة.
قال أبو السريّ الطبيب : إنه كان يولد بها في كل سنة مائتا مخنث ، وهم يحبون النظافة والدماثة والغناء واللذة ، وأكثرهم يبيتون سكارى ، وهم قليلو الرياضة لضيق البلد ، وأبدانهم ممتلئة الأخلاط وحصل بها مرض يقال له : الفواق التنيسيّ ، فلما فتحت دمياط ، سار إليها المسلمون ، فبرز إليهم نحو عشرين ألفا من العرب المتنصرة والقبط والروم ، فكانت بينهم حروب آلت إلى وقوع أبي ثور في أيدي المسلمين ، وانهزام أصحابه ، فدخل المسلمون البلد وبنوا كنيستها جامعا ، وقسموا الغنائم وساروا إلى الفرما ، فلم تزل تنيس بيد المسلمين ، إلى أن كانت إمرة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك في شهر رمضان سنة إحدى ومائة ، فنزل الروم تنيس ، فقتل مزاحم بن مسلمة المراديّ أميرها في جمع من الموالي ، وفيهم يقول الشاعر :
ألم تربع فيخبرك الرجال |
|
بما لاقى بتنيس الموالي |
وكانت تنيس مدينة كبيرة ، وفيها آثار كثيرة للأوائل ، وكان أهلها مياسير أصحاب ثراء ، وأكثرهم حاجة ، وبها يحاك ثياب الشروب التي لا يصنع مثلها في الدنيا ، وكان يصنع فيها للخليفة ثوب يقال له : البدنة لا يدخل فيه من الغزل سداء ولحمة غير أوقيتين ، وينسج باقيه بالذهب بصناعة محكمة لا تحوج إلى تفصيل ولا خياطة تبلغ قيمته ألف دينار ، وليس في الدنيا طراز ثوب كتان يبلغ الثوب منه ، وهو سادج بغير ذهب مائة دينار عينا ، غير طراز تنيس ودمياط ، وكان النيل إذا أطلق يشرب منه من بمشارق الفرما من ناحية جرجير ، وفاقوس من خليج تنيس ، فكانت من أجلّ مدن مصر ، وإن كانت شطا ، وديفو ، ودميرة ،