فلقد أراد حبيب أن يتعلّق به .. فانهار رجاه ، وأخطأته النّجاه ؛ إذ لم يأت إلّا بقوله [في «ديوانه» ١ / ٣٧٧ من الكامل] :
إنّ الطّلاقة والنّدى خير لهم |
|
من عفّة جمست عليك جموسا (١) |
لو أنّ أسباب العفاف بلا ندى |
|
نفعت .. لقد نفعت إذا إبليسا (٢) |
وقوله [في «ديوانه» ١ / ٤٢٧ ـ ٤٢٨ من الكامل] :
إن كان بالورع ابتنى القوم العلا |
|
أو بالتّقى صار الشّريف شريفا |
فعلام قدّم وهو زان عامر |
|
وأميط علقمة وكان عفيفا (٣)؟ |
ثمّ رأيت المبرّد يقول في أواخر «الكامل» [٣ / ١٤١٠ ـ ١٤١١] : (لقد كانت الخنساء وليلى متقدّمتين لأكثر الفحول ، وربّما تتقدّم المرأة في الصّناعة ، ولكنّه قليل ، والأغلب ما قال تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)) ، وأطال في هذا الباب ، ويرد عليه : أنّ هذا ليس من كلام الله ، وإنّما هو محكيّ عن فرعون (٤) ، ولقائل أن يستثني منه بفرض الرّواية عند البحتريّ أو الشّجريّ في «الحماسة» إبدال (فاجر) بفاخر .. فقلت له : ليس الفخر بعاب عند العرب حتّى يسلك به فجه فهو ظاهر الغلط ، لا سيّما وقد قال توبة [الخفاجيّ من الطّويل] :
لقد زعمت ليلى بأنّي فاجر |
|
لنفسي تقاها أو عليها فجورها (٥) |
__________________
(١) جمست : جمدت. يقول : طلاقة وجهك وجودك .. خير لهم من عفّتك ؛ لأنّ هذه يعود نفعها عليك ، أمّا الطّلاقة والنّدى .. فنفعهما عليهم.
(٢) يقول : إنّ أسباب العفاف بلا تقى لا تنفع ؛ لأنّها قد توجد مع البرّ والفاجر ، وقد توجد مع إبليس ، ولو أنّها تنفع بلا تقى .. لنفعته ؛ لأنّه لا يأكل حراما ، ولا يأخذ أموال النّاس بالباطل ، وكذلك عفّتك إن لم يكن معها تقى ولا ندى .. فهي لا تنفع.
(٣) عامر : هو عامر بن الطّفيل ، وكان زنّاء. علقمة : هو ابن علاثة وكان عفيفا. وأشار بقوله : قدّم : إلى أنّ الأعشى قدّم عامرا على علقمة حينما تنافرا إليه. وقصّة منافرتهما موجودة في «جمهرة خطب العرب» (١ / ٤١) ، فليرجع إليها من أحب.
(٤) في قوله تعالى : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) والله أعلم.
(٥) البيت من قصيدة رائعة لتوبة الخفاجي ، الذي هو أحد عشاق العرب ، ومحبوبته هي ليلى الأخيلية الشاعرة العفيفة ، التي لم يحظ منها بشيء ؛ إذ زوّجها أبوها لغيره ، ومن أشعارها فيه :