عظيمة كان قد شيدها ، وقصر عليها جميع أمانيه ، وضرب عنقه فيها ، وفتك في أولاده ومخلّفيه أشد الفتك وشفى غيظه الكامن. ثم أخذ في التجهيز إلى قتال عمر بن حفصون الثائر الشديد في الثوّار ، وكان قيامه وامتناعه في قلعة ببشتر (١) بين رندة (٢) ومالقة (٣) ، وقد وقفت عليها ، وهي خراب ، وكانت من أمنع قلاع الأندلس لا ترام ، ولا يخشى من فيها إلا من الأجلّ ، فحصره فيها ، فيقال إن أخاه عبد الله ، الذي ولي بعده وكان حاضرا معه دسّ إلى الفاصد مالا على أن يسم المبضع ، ففعل ذلك ، فمات المنذر ، وبادر في الحين عبد الله بحمله إلى قرطبة ، وحصلت له السلطنة. وكان المنذر قد ترشّح في مدة أبيه لقود العساكر ، وعظم أمره ، واشتدت صولته ، وكان شكس الأخلاق مرّ العقاب ، ولم تطل مدته.
وذكر صاحب الجذوة أنه كان مولده في سنة تسع وعشرين ومائتين ، فاتصلت ولايته سنتين غير خمسة عشر يوما. ومات في سنة خمس وسبعين ومائتين. قال الحميدي : وقد انقرض عقب المنذر.
٥ ـ [المستكفي محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن عبد الرحمن الناصر (٤)
قال ابن حيّان : بويع محمد بن عبد الرحمن النّاصريّ يوم قتل عبد الرحمن المستظهر يوم السّبت لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة ، فتسمّى بالمستكفي بالله ، اسما ذكر له ، فاختاره لنفسه ، وحكم به سوء الاتفاق عليه ، لمشاكلته لعبد الله المستكفي العباسي أول من تسمّى به في أفنه ووهنه ، وتخلّفه وضعفه ، بل كان هذا زائدا عليه في ذلك ، مقصّرا عن خلال ملوكيّة كانت في المستكفي سميّة ، لم يحسنها محمد هذا لفرط نخلفه ، على اشتباهما في سائر ذلك كله : من توثّبهما في الفتنة ، واستظهارهما بالفسقة ، واعتداء كل واحد منهما] على ابن عمه ، وتولّع كل واحد منهما. شأنه بامرأة خبيثة ، فلذلك حسناء الشيرازية ولهذا بنت سكرى الموروريّة ، وكل واحد منهما خلع ، وتركه أبوه صغيرا. قال : ولم يكن من الأمر في ورد ولا صدر ، وإنما أرسله الله على الأمة محنة. بلغت به الحال قبل تملكه إلى أن كان يستجدي الفلاحين ، ولم يجلس في الإمارة في تلك الفتنة أسقط منه. خنق ابن عمه ابن العراقي ، وسجن ابن حزم وابن عمه أبا المغيرة ، واستؤصلت في مدته بالهدم قصور الناصر ، وهرب بين النساء لتخنيثه ، ولم يتميّز منهن.
__________________
(١) حصن يبعد عن قرطبة ثمانين ميلا. صفة جزيرة الأندلس للحميري (ص ٣٧).
(٢) رندة : مدينة في إسبانيا الجنوبية. كانت من أمنع حصون الأندلس. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٣١٠).
(٣) مالقة : مرفأ في جنوب إسبانيا على البحر المتوسط. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٦٢٩).
(٤) ترجمته في نفح الطيب (ج ١ / ص ٤١٨ / ٤١٩) وتاريخ ابن خلدون (ج ٤ / ص ١٥٢).