ولما دخل القصر بعد تمنّع من البوّاب ، وتمّ له الأمر ، تلقاه بحزم ، ولم يختلف عليه أحد من جلّة أقاربه.
قال صاحب الجذوة (١) : كان محمد محبّا مؤثرا لأهل البيت الحديث ، عارفا ، حسن السّيرة ، ولما دخل الأندلس أبو عبد الرحمن بقي (٢) بن مخلد بكتاب أبي بكر بن أبي شيبة (٣) ، وقرىء عليه ، أنكر جماعة من أهل الرأي ما فيه من الخلاف ، واستشنعوه ، وبسطوا العامة عليه ، ومنعوا من قراءته ، إلى أن اتصل ذلك بالأمير محمد ، فاستحضره وإياهم ، واستحضر الكتاب كله ، وجعل يتصفحه جزءا جزءا ، إلى أن أتى على آخره ، وقد ظنوا أنه موافقهم على الإنكار عليه ، ثم قال لخازن الكتب : هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه فانظر في نسخه لنا ، ثم قال لبقي بن مخلد : انشر علمك ، وارو ما عندك من الحديث ، واجلس للناس حتى ينتفعوا بك. فنهاهم أن يتعرضوا له.
وكان محمد قد فوّض أمور دولته لهاشم بن عبد العزيز أعظم وزرائه ، واشتمل عليه اشتمالا كثيرا ، وكان هاشم تيّاها ، معجبا ، حقودا ، لجوجا ، فأفسد الدولة. وكان يقدّمه على العساكر ، فخرج مرة إلى غرب الأندلس ليقمع ما هنالك من الثوّار ، فأساء السيرة في الحركة والنزول والمعاملة مع الجند ، فأسلموه ، وأخذ أسيرا ، ثم افتدي بأموال عظيمة. وأنهضه مرّة مع ابنه المنذر إلى ثغر سرقسطة ، فأساء الأدب معه حتى أحقده وأتلف محبّته لما صارت السلطنة إليه ، وثارت الثوار في الأندلس بسببه. وما مات محمد حتى خرقت الهيبة ، وزال ستر الحرمة ، واستقبل ابنه المنذر ثم عبد الله نيران الفتنة ، فأصلتهما مدة حياتهما إلى أن خمدت بالناصر عبد الرحمن.
وكانت وفاة السلطان محمد في آخر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
٤ ـ ابنه أبو الحكم المنذر بن محمد (٤)
ولي بعد أبيه ، فلم تكن له همة أعظم من خداع وزير أبيه هاشم بن عبد العزيز إلى أن وثب عليه ، وسجنه وأثقله بالحديد ، وذكره ما أسلفه من ذنوبه الموبقة ، ثم أخرجه ، وأتى به إلى دار
__________________
(١) أي كتاب جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس ـ للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الحميدي المتوفى سنة ٤٨٨ ه. كشف الظنون (ج ١ / ص ٥٨١).
(٢) هو بقي بن مخلد بن يزيد القرطبي ، توفي سنة ٢٧٦ ه له (تفسير القرآن). كشف الظنون (ج ٥ / ص ٢٣٣).
(٣) لعله : محمد بن عثمان بن أبي شيبة المتوفى سنة ٢٩٧ ه له (كتاب السنن في الفقه) كشف الظنون (ج ٦ / ص ٢٣).
(٤) ترجمته في نفح الطيب (ج ١ / ص ٣٣٨) وتاريخ ابن خلدون (ج ٤ / ص ٢٨٧ / ٢٨٨) وتاريخ افتتاح الأندلس (ص ١١٣ ـ ١١٤) وأخبار مجموعة (ص ١٣٢) والحلة السيراء (ص ٦٥).