مثل ذلك ، ودخل المضارب المعدة له فشاهد أصحابه وحاشيته على ما كانوا عليه من الحال ، والعمل في خدمته ، وحمل إلى دست قد نصب له ليجلس عليه ، فرمى نفسه إلى الأرض ورمى ما على رأسه وعفر خديه على التراب ، وبكى بكاء شديدا (١) سمع منه نشيجه ، وقال : ما استحققت الإبقاء عليّ فضلا عن العفو الكريم والاحسان الجسيم ، ولكن مولانا أبى إلا ما تقتضيه أعراقه الشريفة وأخلاقه المنيفة ، وامتنع عن الجلوس في الدست وقعد بين يديه ، وأتاه بعد ساعة أمين الدولة الحسن بن عمار ، وهو أجل كتابه وجوهر ومعهما من الخدم على أيديهم الثياب ، فسلما عليه وأعلماه رضى العزيز عنه وتجاوزه عن الهفوة الواقعة منه ، وألبسه جوهر دستا من ملابس العزيز كان في جملة الثياب ، وقال له : أمير المؤمنين يقسم عليك بحقه إلا طرحت سوء الاستشعار ، وعدت إلى حال السكون والانبساط ، فجدد الدعاء وتقبيل الأرض ، وشكر جوهرا على ما ظهر منه في أمره ، وعاد الحسن وجوهر إلى العزيز فأخبراه ما كان منه ، وواصله العزيز بعد ذلك بالمراعاة والملاطفة في الفواكه والمطاعم ، وتقدم من غد إلى البازيارية وأصحاب الجوارح بالمصير إلى باب مضربه ، وراسله بالركوب إلى الصيد تأنيسا له ، وقاد إليه عدة من دواب بمراكبها فركب وهو يشاهد القتلى من أصحابه ، وعاد من متصيده عشاء فاستقبله الفراشون بالشمع ، والنفاطون بالمشاعل ، ونزل في (١٧ ط) مضاربه ، فلما كان الليل ركب العزيز إليه ودخل عليه ، فبادر إلى استقباله وتقبيل الأرض وتعفير خديه بالتراب ، فأخذ العزيز بيده وأمره بالجلوس فامتنع ثلاث مرات ، ثم جلس فسأله عن خبره وخاطبه بما سكن نفسه ، وقال له : ما نقمت عليك إلا أنني
__________________
(١) أورد يحيى بن سعيد الأنطاكي في تاريخه ص : ١٥٤ ـ ١٥٥ ، والمقريزي في ترجمته لجوهر ، معلومات تتوافق مع معلومات ابن القلانسي وتختلف وهي جميعا متكاملة مفيد العودة إليها. انظر كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ص : ٣٤٢ ـ ٣٤٣. اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا للمقريزي. ط القاهرة ١٩٦٧ : ١ / ٢٣٦ ـ ٢٤٦.