ومن جملة الأسباب التي تجعل شتاها عارما (٢١) مكروها كون بنائها من حجر رطب لو جعل في مقمأة (٢٢) بضع سنين لأكلأ (٢٣) ، وحين يستخرج أولا من مقطعه يكون أخضر مائيا ولا يبيضّ إلا إذا نصب للهواء والشمس سنين ، ومن خواصّه أنه قابل للنقش ، فلهذا ترى منه في الديار والكنائس نصمات (٢٤) شتّى ، وقد يبعث منه على سبيل التجارة إلى جميع البلاد ، وكثيرا ما تتوارى الشمس في هذا الفصل فلا تطلّ فيه ولا من شباك ، فاين هذا من شتاء مصر حين يترحّب بالشمس طالعة ، وتشيّع غاربة ، وفي الصيف يطفو نيلها فيرطّب الأرض وينتظم به شمل الأحباب وعقود المسرّات.
وإذا اتفق في مالطة يوم صحو في الشتاء رأيت الناس جميعا يعدّدون محاسنه ويصفونه ، ويلهون عن سوء أيامهم الأخر حين إذ الرياح تأخذ بناصية السائر ، والمياه تهطل من أنف كلّ سحاب ، والزكام ملازم للأنوف ، والسعال قابض على الحلقوم ، وأشد ما يسوء منها استمرار الرياح أياما متوالية من دون مطر فإنه قد يأتي عليها من السنين ما لا يغزر فيه المطر والرياح مع ذلك لا تهدأ أصلا ، وقد احتاجوا في بعض السنين إلى الغيث غاية الاحتياج حتى فرض عليهم أسقفهم دعاء للاستمطار في الكنائس مع الصيام ، والريح مع ذلك تزيد عصوفا فقلت :
ولّما لم يطق كانون قطرا |
|
تولّى وهو يحبق بالرياح |
فيا قوم اغسلوا بالدمع فيه |
|
وجوهكم وصوموا عن سفاح |
وفي الجملة فإن صيف مالطة وشتاءها شاقّان جاهدان يهجمان بغتة ، فآخر ذنب الشتاء معقود بناصية الصيف فليست كمصر والشام ، فإن الإنسان فيهما يتعوّد على
__________________
(٢١) العارم : الشديد البرد. (م).
(٢٢) المقمأة : المكان الخصيب. (م).
(٢٣) أكلأ : ظهر عليه الكلأ وهو العشب. (م).
(٢٤) نصمات : جمع نصمة ، وهي الصورة التي تعبد. (م).