لا نقاذ بلادها ، فقالت إنّي فلاحة مسكينة ، ولا دراية لي بمثل هذه الخطوب ، فأكد لها الملك أنها تعطى مقدرة وحكمة ، وأنّ القديستين تصاحبانها ، وأن كل شيء يجري على وفق المراد. ثم ظهرتا لها أيضا في نور عظيم ، وعلى رؤوسهما تيجان بهية مرصّعة ولهما صوت رخيم. وكانت البنت تذكر رواية جرت بين الناس مجرى النبوة ، وهي أنه كما أن خراب فرنسا نشأ عن امرأة شريرة ، أعني إيزابلا من بافاريا ، كذلك يكون استردادها على يد بنت غير ذات عيب ، تتجرد لا نقاذ بلادها ، وأنّ هذه المنقذة تأتي من جهة بواشنو ، ثم كثر توارد الأصوات عليها ، وكثر حثها لها حيث كادت أمور فرنسا تختل بالكلية ، وأوشكت أن تكون في البحران. وأشارت إليها أنها هي تلك البكر المعنية ، فاستحوذ عليها الكرب والكآبة ، وكانت كثيرا ما ترى باكية عند مفارقة الرؤيا لها ، وكان أبواها لا يصدقان بما ترى ، فأرادا أن يزوجاها منعا لها عن الخروج مع الجند ، فأعرضت عن عرضهما حيث كانت قد نذرت البتولية. واتفق وقتئذ أن جماعة من الإنكليز مرّوا بقريتها فنهبوها وأحرقوا الكنيسة ، فاضطرت إلى الفرار مع والديها ، فلما رجعوا ورأت ما نزل بالقرية اشتد غيظها وجأشها ، فأمرتها الأصوات بأن تذهب إلى بعض الحكام في ذلك الجوار ، وتطلب منه أن يوصلها إلى الملك ، وأنها إن لم تفعل ذلك تعدم خلاص نفسها ، وأنها حين تمثل في حضرته تخبره بأنها أرسلت لكف حصار أورليان ، ولتتويجه في رام. فقصدت الحاكم وطلبت مقابلته فأبى أولا أن يراها ، فما زالت تلحّ عليه حتى أذن لها ، فلما دخلت نظر إليها نظر المزدري ، وأمر خالها بأن يردها إلى بيت أبيها ، وأن تجلد ، فقالت له :
ـ إنّ ذلك عمل سيدي ، ولا بد من انجازه.
قال :
ـ ومن سيدك؟
قالت :
ـ رب السماء.
فأيقن بأنها مجنونة وصرفها ، فلبثت في تلك الجهة. وكانت تبتهل في كل يوم وتقول إنّ الأصوات تلح عليها بانجاز العمل ، فشاع خبرها في البلد ، فكانوا يهرعون إلى رؤيتها ويعجبون من تقواها وحسن سيرتها ، فأرسل إليها أحد الأمراء أن تأتيه