يوافق وامتنع ،
فعظم قدره وارتفع وكان ذلك من تمام سعادته ، وكمال سيادته ، فكأنّك بالدّنيا ولم
تكن ، وبالآخرة ولم تزل ، وتولّى الخطابة بصفد ، فرأى ما اختصّ به هذا البلد من
النّكد ، فرغب عن الخطابة رغبة فيما عند الله ، وآثرني بها ابتغاء لوجه الله ، رضي
بالمقدور ، وقنع بالميسور ، وعلم أن الدنيا متاع الغرور ، أعانني الله على مكافأته
، وجمعني وإيّاه في جنّاته.
ومنهم الشيخ
الجليل المنقطع للعبادة والتّحصيل ، الشيخ شهاب الدين أحمد بن خفاجا الفقيه
الشّافعي من أئمّة الدين ، اشتغل بصفد ، ثمّ رحل في طلب العلم إلى دمشق ، فحصّل من
العلوم الشّرعيّة جملا ، ثمّ عاد وأقام بقرية ابنيت ، عن النّاس معتزلا ، يجمع
ويؤلّف ، ويفتي ويصنّف ، ويشتغل بمن جاءه للتعليم ، ويرشد من قصده للتّفهيم ،
ويفعل كل ذلك تبرّعا واحتسابا ، ولا يطلب من الناس على ذلك جزاء ولا ثوابا ، بل هو
منقطع إلى الله ، متوكّل على الله ، يزرع بنفسه لطلب الحلال ، فإذا حصل القوت ،
واطمأنّت قلوب العيال ، تفرّغ لعبادة ربّه ، وتحصيل العلم وكتبه ، وكل من جاءه
لاستفتاء واشتغال أضافه من ذلك الكسب الحلال ، ثمّ يشغل من اشتغل ، ويجيب من سأل ،
فإذا فرغ أقبل على التّصنيف ، وانكبّ على التّأليف ، وكان لا يأكل إلّا من طعامه ،
ولا يقبل شيئا مدّة أيامه ، وعمّر نحو السبعين ، وكان له مصنّفات كثيرة في علوم
الدين ، شرح «كتاب التّنبيه» وسمّاه «بالمصباح» في نحو عشرة من المجلّدات ، وصنّف
مختصرا في الفقه نحو مجلّدين ، جمع فيه مقاصد الرّوضة بأوجز العبارات ، وشرح «كتاب
الأربعين النّواويّة» شرحا مطوّلا ، يحوي الفوائد السّنيّة ، وله غير ذلك من
المصنّفات ، وكلّها بحمد الله نافعات ، ولمّا أوقفني على شرح التّنبيه سررت به
ودعوت له ، وكنت آنذاك شابا صغير السّن فقلت : شعر :