الأول : ما يكسبه الإنسان من الأمور التي يباشرها بنفسه حلوها ومرها.
الآخر : ما يراه في غيره من أترابه وأقرانه ممن عاشها وعاصرها.
والثالث : أن تصله أحوال وأخبار المتقدمين ، فيتيقّن أسباب سعادتهم وابتلائهم.
وليس بين الطرق الثلاثة المذكورة ما هو أكثر يقينا من أن يباشر الإنسان التجربة بنفسه ؛ ويليه ، أن يشاهد ما يقع للناس من أبناء عصره ؛ ثم ما يقرأه في التاريخ ـ بشرط أن يكون ناقله ثقة ـ فيكون كمن رآها بعينه فلا يفاجأ بشيء خلاف العادة والمعهود ، ويقيس ساحة أسباب عيشه بمقاييس العقل ، ويصيب بسهام آماله أهدافه ويتفرس بفراسته أنوار السعادة :
كريم خبير أخو مأقط |
|
نقاب يحدّث بالغائب (١) |
كما أوردنا ذلك في حديث الشّعبيّ.
[١٣] فائدة أخرى : إن المتأمل في التواريخ ، والعالم بأخبار الماضين ، يعلم أنه يشاور في كل حادثة وواقعة حدثت قبله ، من عهد آدم عليهالسلام إلى عهده ، مجموعة من عقلاء العالم ؛ وهذا الأمر ـ العلم بأخبار الماضين ـ أكثر نفعا من المشاورة لأن الأكابر من الماضين والمتقدمين ، كانوا ينظرون إلى مصالحهم الخاصّة في الوقائع التي يبتلون بها ، بينما ينظر من يشاور في الوقت الحاضر إلى مصالح غيره ـ أي مصالح من يستشيره ـ واهتمام الناس بمصالحهم الخاصّة أصدق من اهتمامهم بمصالح الآخرين ، وهم أكثر حرصا على حفظها من حرصهم على حفظ ما للآخرين.
ولا شك في أن المتدبر في التاريخ ، في كل واقعة وقعت قبله إنما يغنم خلاصة عقول مجموعة من عقلاء العالم ، فتظل يد الفتنة ، وجيوش الوقائع والحوادث عن
__________________
(١) قائله أوس بن حجر كما في غريب الحديث (٤ / ٤٧٨) والفائق في غريب الحديث للزمخشري (١ / ٣٣١). والمأقط الموضع الذي يقتتل فيه. والنقاب الرجل العالم بالأشياء الفطن ، وصفه بالشجاعة في الحرب وبالفطنة.