السبب الثاني : العمل بالعلم : لا شك أن الالتزام العملي بما يعلم ، يرسخ المعلومات في الأذهان ، ويثبتها ، وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن بعدهم من أئمة الدين ، يقرنون العلم بالعمل (١) ، والقول بالفعل ، ومن الأدلة على هذا قول ابن مسعود رضي الله عنه : «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ، والعمل بهن» (٢) وقول أبي عبد الرحمن السلمي التابعي : «حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ، أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن ، والعمل جميعا» (٣).
وأمر آخر وهو أن الله سبحانه يهب عباده المؤمنين العاملين قوة في علمهم ، وثباتا في ذهنهم فضلا منه ورحمة ، فقد حكي عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال : «من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم» (٤) فهذا القول ولو لم نعلم صحة نسبته إلى عيسى عليه السلام فإنه صحيح المعنى ، أما العصاة المذنبون فإنهم يحرمون بركة العلم ، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي |
|
فأرشدني إلى ترك المعاصي |
وأخبرني بأن العلم نور |
|
ونور الله لا يهدى لعاص (٥) |
السبب الثالث : ترغيب الشارع في تبليغ العلم ، وترهيبه من كتمه : فقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في تبليغ العلم عنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : «نضّر الله امرءا سمع
__________________
(١) لا يفهم من هذا أنهم كانوا يفعلونه لأجل تقوية الحافظة ، فحاشاهم من ذلك ، بل قصدهم الطاعة ، والخضوع لله تعالى ، لكن هذا المقصد يلزم منه ذلك.
(٢) أخرجه الطبري في تفسيره ١ / ٨٠ ، وذكره القرطبي في التفسير ١ / ٣٩ عن عثمان ، وأبيّ أيضا.
(٣) أخرجه الطبري في تفسيره ١ / ٨٠.
(٤) نسب هذا القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي نسبة باطلة ، انظر الحلية لأبي نعيم الأصبهاني ١٠ / ١٥ ، والمغني عن حمل الأسفار في الأسفار للحافظ العراقي ١ / ٧١.
(٥) ديوان الإمام الشافعي ص ٥٤.