وتقدم التتار بعد ذلك ـ بأمر من ملكهم جنكيز خان ـ إلى بلاد خوارزم ، وبلاد خراسان الواسعة ، وبلاد الجبال ، وبلاد أذربيجان ، وبلاد أرّان ، وغيرها ففعلوا فيها مثل ما فعلوه في بلاد ما وراء النهر. ولا يشعر بعظم هذه المصيبة القاصمة إلا من علم ما كانت تشتمل عليه تلك البلاد من مدن وقرى كثيرة عامرة ، وما كانت تحويه هذه المدن والقرى من خلق عظيم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، وما كان في هذا الخلق من علماء الدين ، وأئمة المسلمين ، وأحبارهم الذين تعجز الأسفار العظيمة عن الوفاء بأسمائهم فضلا عن تراجمهم.
وليست هذه وحدها حادثة التتار ، بل إنهم لعنهم الله تقدموا في عهد ملكهم هولاكو إلى عاصمة الإسلام ، وقاعدة الدنيا ، وموئل الأنام ، بغداد ، فجاسوا خلال ديارها ، وقضوا على قضاتها وفقهائها وعلمائها ـ وناهيك بهم جلالة وكثرة ـ ودمروا مدارسها ، ومساجدها ، وربطها ، وجعلوا من خزائنها العظيمة ، ودور كتبها الحافلة طعمة للنيران ، ومعابر لخيولهم على دجلة ، ومرابط لحمرهم ، وقد ذكر ابن خلدون ، وابن الساعي ، والقلقشندي صورا من جرائمهم ، وعبثهم في مكتبات بغداد الضخمة وبخاصة بيت الحكمة ، فقال ابن خلدون : «وألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعها في دجلة ، وكان شيئا لا يعبر عنه» (١). وقال ابن الساعي : «بنوا إسطبلات الخيول ، وطوالات المعالف بكتب العلماء عوضا عن اللبن» (٢). وقال القلقشندي : «خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد : فكان فيها من الكتب ما لا يحصى كثرة ، ولا يقوم عليه نفاسة ، ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتر بغداد ، وقتل ملكهم هولاكو المستعصم آخر خلفائهم ببغداد ، فذهبت خزانة الكتب فيما ذهب ، وذهبت معالمها ، وأعفيت آثارها» (٣).
__________________
(١) تاريخ ابن خلدون ٣ / ٥٣٧.
(٢) خزائن الكتب القديمة في العراق لكوركيس عواد ١٠٢ نقلا عن مختصر أخبار الخلفاء المنسوب لابن الساعي.
(٣) صبح الأعشى ١ / ٤٦٦.