قد وهبت لكم أموركم فاتقوا الله في سركم وعلانيتكم).
وكأنه أراد أن يعلّمهم درسا بليغا في التسامح والعفو والإغضاء فأتى بأعجب ما عرف في تاريخ الفاتحين ، وأجل ما سطر في باب العدل والتسامح والعفو عند المقدرة ، وكظم الغيظ ، وعدم اللّجاج في الإنتقام ، وقديما قيل «من انتقم فقد شفى غيظ نفسه وأخذ أقصى حقه ، ومن أخذ حقه وشفى غيظه لم يجب شكره ، ولم يذكر في العالمين فضله» ، ولم نر أهل النّهي والمنسوبين إلى الحجى والتّقى مدحوا الحكام بشدّة العقاب ، وقد ذكروهم بحسن الصّفح وبكثرة الاغتفار وشدة التغافل :
أخذ التاريخ مما تركوا |
|
عملا أحسن أو قولا أصابا |
ومن الإحسان أو من هذه |
|
نجح الراغب في الذكر وخابا |
ثم فيه أكبر برهان على حبّ الإمام للوئام والسلام مع قوة نفس ، وشدّة بأس وشجاعة ، وكرم أخلاق نادرة المثال تحلّت بها شخصيته الفذة حيث عامل أعداءه ، بهذه المعاملة ، في أشد الأوقات حرجا وضيقا ، ولو كانوا مع غيره لما كان حظهم منه غير السّيف ، وقد أشار بذلك محمد بن الدعام ، وأبو العتاهية كما نقله صاحب السيرة ، فلم يقبل الإمام ذلك منهم :
يفر جبان القوم عن أم رأسه |
|
ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه |
ويرزق معروف الجواد عدوه |
|
ويحرم معروف البخيل أقاربه |
وهكذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ، وقّافون عند الشّبهات ، ولو لا صرامته في الحق ورغبته الشديدة في اتباع أثر السّلف لكان له مندوحة في معاقبتهم والتّشديد عليهم.
ثم إن أهل شبام تجمعوا ، وهمّوا بالإمام قبل أن يقوم من مقامه ، ولما عرف ذلك منهم ، رجع عليهم ومعه ابو العتاهية ، فكانت معركة قتل فيها جماعة منهم ، وقتل الإمام أكثرهم ، وانقطع من الجمال ، التي كان عليها