الذى يبذلونه فى حقولهم. وأنا أميل إلى القول : إن افتقار المدينة المنورة إلى الحرف اليدوية ، يعزى إلى تقليل أهل الجزيرة العربية من شأن هذه الحرف اليدوية والحط من قيمتها ، وسبب ذلك أن فخر أهل الجزيرة العربية وتباهيهم أقوى بكثير من جشعهم وحبهم للمال ، وهذا الفخر والتباهى هو الذى يمنع الآباء من تعليم أبنائهم أية حرفة من هذا القبيل. هذا العزوف يرثه أهل المدينة المنورة عن السكان القدامى ، البدو بصفة خاصة ؛ نظرا لأن هؤلاء البدو ، كما سبق أن قلت ، يستبعدون ، وإلى يومنا هذا ، الحرف اليدوية كلها من قبائلهم التى ينتمون إليها ، فضلا عن نظرة هؤلاء البدو إلى أولئك الذين يستقرون فى مخيمهم ، باعتبارهم من سلالة أو عرق متدن ، الأمر الذى يمنع هؤلاء البدو من الاختلاط بهؤلاء الناس أو حتى الزواج منهم. مثل هؤلاء الناس يقيّمهم البعض فى مناطق أخرى من الشرق تقييما مختلفا ، وبخاصة فى سوريا ، وفى مصر اللتين يجرى فيهما تقدير هذه الحرف تقديرا كبيرا ، واحترامها مثلما كان الحال عليه فى كل من فرنسا وألمانيا خلال العصور الوسيطة. فى هذه البلاد تجد الأسطى فى حرفة من الحرف مساويا من حيث المرتبة والاحترام لتاجر من تجار الطبقة الثانية ، هذا يعنى أن هذا الحرفى بوسعه الزواج من بنات الأسر المحترمة فى المدينة ، وعادة ما يكون صاحب نفوذ فى المنطقة التى يقيم فيها ، عن تاجر تكون ثروته ثلاثة أضعاف ما يملكه ذلك الحرفى نفسه. بذل الأباطرة الأتراك قصارى جهودهم للعناية بالصناعة والفنون ، وقبل خمسين عاما كانوا لا يزالون منتعشين فى كل من سوريا ومصر ؛ الحرفيون فى سوريا الآن على وشك الانقراض ، اللهم باستثناء دمشق ، وفى مصر تدنى حال هؤلاء الحرفيين إلى أدنى المستويات ؛ والسبب فى ذلك أنه على الرغم من أن محمد على باشا يستعمل بعض الإنجليز والإيطاليين فى تسيير وإنجاز الخدمات فإن هؤلاء العمال الإنجليز والإيطاليين يعملون لحساب محمد على ، الأمر الذى لا يجعل أحدا منهم يشعر بالرواج ، يضاف إلى ذلك أن محمد على باشا يجبر الصناعة الوطنية ، عن طريق الاحتكار (احتكار المنتج) من ناحية ، واستخدام القسم الأكبر من العمالة لحسابه من الناحية الأخرى على ما يجعلهم يتقاضون عائدا يقل بنسبة ثلاثين فى المائة عما ينبغى أن يتقاضوه ، إذا ما سمح لهم بالعمل لحسابهم ، أو فى القطاع الخاص.