تستشهدوا (١) بالله فإنها حجة يركن إليها العاجز عن البينات من الناس ، بل ائتوا ببيّنة تكون حجة عند الحكام. وهذا يؤذن بأنه لم يبق لهم تشبث سوى قولهم : «الله يشهد لنا عليكم» هذا إذا جعلت (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلقا ب (ادْعُوا) فإن جعلته متعلقا ب (شُهَداءَكُمْ) احتمل معنيين : أحدهما أن يكون المعنى : ادعوا الّذين تجاوزتم في زعمكم شهادة الله ، أي شهادتهم لكم يوم القيامة ، والثاني على أن يراد (٢) بشهدائكم آلهتكم ، أي ادعوا الذين تجاوزتم في اتخاذكم ألوهية الله ، إلى ألوهيتهم.
ويحتمل أن يكون التقدير : (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غير المؤمنين يشهدون (٣) لكم أنكم آمنتم بمثله ؛ وفي هذا إرخاء عنان الاعتماد على أن فصحاءهم تأنف نفوسهم من مساجلة الحق الجليّ بالباطل اللجلجيّ (٤) ، وتعليقه ب (ادْعُوا) على هذا جائز.
ومنه قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (البقرة : ٢٥٩) فإنه عطفه على قوله : (أَلَمْ تَرَ) (البقرة : ٢٥٨) لأنها بمعنى «هل رأيت».
(السادس) : معرفة النزول ، وهو من أعظم المعين على فهم المعنى ، وسبق منه في أول الكتاب جملة (٥) ، وكانت الصحابة والسلف يعتمدونه ، وكان عروة بن الزبير ، قد فهم من قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (البقرة : ١٥٨) (٦) [أنّ السعي ليس بركن ، فردت عليه عائشة ذلك وقالت : لو كان كما قلت ، لقال : «فلا جناح عليه ألاّ يطوف بهما»] (٦) ، وثبت أنه إنما أتى بهذه الصيغة ؛ لأنه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام ، فلما جاء الإسلام ، كرهوا [١٠٩ / ب] الفعل الذي كانوا يشركون به ، فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم ، وأمرهم بالطواف ؛ رواه البخاري في «صحيحه» (٧). فثبت أنها نزلت ردّا على من كان يمتنع من السعي.
__________________
(١) في المخطوطة (لا تشهدوا).
(٢) في المخطوطة (المراد).
(٣) في المخطوطة (يشهدوا).
(٤) في المخطوطة (الجلجي).
(٥) راجع النوع الأول من الكتاب معرفة أسباب النزول في ١ / ١١٥.
(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(٧) انظر صحيح البخاري ٣ / ٤٩٧ ، كتاب الحج (٢٥) ، باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله