فإنّ من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخطّ إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلاّ الأقلّون ولم يكن ملغزا ، فأخرج [تعالى] مخاطباته في محاجّة خلقه في أجلّ صورة تشتمل على أدقّ دقيق ، لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة ، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الخطاب (١).
وعلى هذا حمل الحديث المرويّ : «إنّ لكلّ آية ظهرا وبطنا ، ولكلّ حرف حدّا ومطلعا (٢)» ، [لا] (٣) على ما ذهب إليه الباطنية ، ومن هذا الوجه كلّ من كان حظّه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر. ولذلك إذا ذكر تعالى حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافته إلى أولي العقل ، ومرة إلى السامعين [ومرة إلى المفكرين] (٤) ومرة إلى المتذكرين ، تنبيها [أنّ] (٥) بكلّ قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقته منها. وذلك نحو قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد : ٤) ، وغيرها من الآيات.
واعلم أنه قد يظهر منه بدقيق الفكر استنباط البراهين العقلية على طرق المتكلمين ؛ فمن ذلك الاستدلال على حدوث العالم بتغير الصفات عليه وانتقاله من حال إلى حال ، وهو آية الحدوث ، وقد ذكر الله تعالى في احتجاج إبراهيم الخليل (٦) عليهالسلام استدلاله بحدوث
__________________
(١) في المطبوعة (الخطباء).
(٢) للحديث طريقين (الأولى) من طريق الحسن مرسلا بهذا اللفظ ، أخرجها أبو عبيد في فضائل القرآن ق ٨ / ب باب فضل علم القرآن والسعي في طلبه (مخطوطة توبنجن) ، وأبو نصر السجزي في «الإبانة» ، (جمع الجوامع ١ / ٦٩٥) (الثانية) من طريق ابن مسعود رضياللهعنه مرفوعا ذكرها ابن حجر في المطالب العالية ٣ / ٢٨٥ ، وأخرجها أبو يعلى الموصلي في المسند ٩ / ٨٠ ـ ٨١ ، برواية مطولة وفيه : «ولكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع» كتاب فضائل القرآن ، الحديث (٣٤٨٩) وعزاها للبزار ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٥٢ كتاب التفسير باب القراءات وكم أنزل القرآن على حرف وعزاه للطبراني في المعجم الأوسط ، وأخرجها الطبري في التفسير ١ / ٩ القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب ، بإسنادين عن ابن مسعود ، وأخرجها ابن حبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ١ / ١٤٦ كتاب العلم ، باب ذكر العلة التي من أجلها قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» الحديث (٧٥) ، ولفظه : «أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن».
(٣) ساقط من المخطوطة.
(٤) ساقط من المخطوطة.
(٥) ساقط من المخطوطة.
(٦) إشارة إلى الآيات ٧٥ ـ ٧٨ من سورة الأنعام وفيها : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ ...).