وإنما لم يجز أن يقدر مستأنفا لأنه لا ارتباط حينئذ بينه وبين «كفاني» ؛ فلا تنازع بينهما.
فإن قلت : لم لا يجوز التنازع على تقدير الواو للحال ، فإنك إذا قلت : «لو دعوته لأجابني غير متوان» أفادت «لو» انتفاء الدعاء والإجابة دون انتفاء عدم التواني حتى يلزم إثبات التواني؟
قلت : أجاز ذلك قوم منهم ابن الحاجب في شرح المفصل ، ووجّه به قول الفارسي والكوفيّين إن البيت من التنازع وإعمال الأول ، وفيه نظر ؛ لأن المعنى حينئذ لو ثبت أني أسعى لأدنى معيشة لكفاني القليل في حالة أنّي غير طالب له ؛ فيكون انتفاء كفاية القليل المقيّدة بعدم طلبه موقوفا على طلب له ؛ فيتوقّف عدم الشيء على وجوده.
ولهذه القاعدة أيضا بطل قول بعضهم في (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٥٩] إن فاعل «تبيّن» ضمير راجع إلى المصدر المفهوم من «أن» وصلتها بناء على أن «تبيّن» و «أعلم» قد تنازعاه كما في «ضربني وضربت زيدا» ؛ إذ لا ارتباط بين «تبيّن» و «أعلم» ، على أنه لو صحّ لم يحسن حمل التّنزيل عليه ، لضعف الإضمار قبل الذكر في باب التنازع ، حتى إن الكوفيّين لا يجيزونه ألبتة ، وضعف حذف مفعول العامل الثاني إذا أهمل كـ «ضربني وضربت زيد» حتى إن البصريّين لا يجيزونه إلا في الضرورة.
والصواب أن مفعول «أطلب» : «الملك» محذوفا كما قدّمنا ، وأن فاعل «تبيّن» ضمير مستتر : إما للمصدر ، أي : فلما تبيّن له تبين كما قالوا في (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] أو لشيء دل عليه الكلام ، أي : فلما تبيّن له الأمر أو ما أشكل عليه ، ونظيره «إذا كان غدا فأتني» أي : إذا كان هو ، أي ما نحن عليه من سلامة.
الحادي عشر : ألفاظ التوكيد الأول ، وإنما يربطها الضمير الملفوظ به ، نحو : «جاء زيد نفسه ، والزيدان كلاهما ، والقوم كلّهم» ومن ثمّ كان مردودا قول الهروي في «الذخائر» ، تقول : «جاء القوم جميعا» على الحال ، و «جميع» على التوكيد ، وقول بعض من عاصرناه في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] : إنّ «جميعا» توكيد لـ «ما» ، ولو كان كذا لقيل : «جميعه» ، ثم التوكيد بـ «جميع» قليل ، فلا يحمل عليه التنزيل ، والصواب أنه حال ؛ وقول الفراء والزمخشري في قراءة بعضهم: (إِنَّا كُلٌّ فِيها) [غافر : ٤٨] : إن «كلا» توكيد ، والصواب أنها بدل ، وإبدال الظاهر من