وذلك أن «فرسخا» ظرف مكان و «موهنا» ظرف زمان ، والظرف يعمل فيه روائح الفعل ، بخلاف المفعول به ، ويوضح كون «الموهن» ليس مفعولا به أنّ «كليلا» من «كلّ» ، وفعله لا يعدّى ؛ واعتذر عن سيبويه بأنّ «كليلا» بمعنى : مكلّ ، وكأن البرق يكلّ الوقت بدوامه فيه ، كما يقال : «أتعبت يومك» ، أو بأنّه إنما استشهد به على أن «فاعلا» يعدل إلى «فعيل» للمبالغة ، ولم يستدلّ به على الإعمال ، وهذا أقرب ، فإن في الأول حمل الكلام على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة ، وقال ابن مالك في قول الشاعر [من البسيط] :
٥٦١ ـ [ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه] |
|
ونعم من هو في سرّ وإعلان (١) |
يجوز كون «من» موصولة فاعلة بـ «نعم» ، و «هو» : مبتدأ خبره «هو» أخرى مقدّرة ، و «في» : متعلّقة بالمقدّرة ، لأن فيها معنى الفعل ، أي : الذي هو مشهور ، انتهى.
والأولى أن يكون المعنى الذي هو ملازم لحالة واحدة في سرّ وإعلان ؛ وقدّر أبو علي «من» هذه تمييزا ، والفاعل مستتر ، وقد أجيز في قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣] تعلّقه باسم الله تعالى وإن كان علما ، على معنى وهو المعبود ، وهو المسمّى بهذا الاسم ؛ وأجيز تعلّقه بـ «يعلم» ، وب «سرّكم» و «جهركم» ، وبخبر محذوف قدّره الزمخشري بـ «عالم» ، ورد الثاني بأن فيه تقديم معمول المصدر وتنازع عاملين في متقدّم ، وليس بشيء ، لأن المصدر هنا ليس مقدّرا بحرف مصدريّ وصلته ، ولأنه قد جاء نحو : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] ، والظرف متعلّق بأحد الوصفين قطعا ، فكذا هنا ؛ وردّ أبو حيان الثالث بأن «في» لا تدلّ على عالم ونحوه من الأكوان الخاصة ؛ وكذا ردّ على تقديرهم (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] : مستقبلات لعدّتهن ، وليس بشيء ، لأن الدليل ما جرى في الكلام من ذكر العلم ، فإن بعده (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعام : ٣] ، وليس الدليل حرف الجر ، ويقال له : إذا كنت تجيز الحذف للدّليل المعنوي مع عدم ما يسدّ مسدّه فكيف تمنعه مع وجود ما يسد؟ وإنما اشترطوا الكون المطلق لوجوب الحذف ، لا لجوازه.
ومثال التعلّق بالمحذوف (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) [الأعراف : ٧٣] و [هود : ٦١] ، بتقدير : وأرسلنا ، ولم يتقدم ذكر الإرسال ، ولكن ذكر النبيّ والمرسل إليهم يدلّ على
__________________
(١) البيت من البحر البسيط ، وهو بدون نسبة في خزانة الأدب ، الشاهد / ٧٦٧ /.