كان بين داود وعيسى بن مريم ـ عليهما السّلام ـ أربعمائة سنة ، وكان شريعة عيسى أنّه بعث بالتّوحيد والإخلاص ، وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأخذ عليه الميثاق الّذي أخذ على النّبيّين ، وشرّع له في الكتاب إقام الصّلاة مع الّدين ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود ولا فرض مواريث ، وأنزل عليه تخفيف ما كان نزل على موسى في التّوراة ، وهو قول الله في الّذي قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل : ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم. وأمر عيسى من معه ممّن اتّبعه من المؤمنين ، أن يؤمنوا بشريعة (١) التّوراة والإنجيل.
(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (٥٠) (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١) : الظّاهر أنّ قوله : قد (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ، تكرير لما قبله ، أي : جئتكم بآية بعد أخرى ممّا ذكرت لكم. والأوّل ، لتمهيد الحّجة. والثّاني ، لتقريبها إلى الحكم. ولذلك رتّب عليه «بالفاء».
قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) ، أي : أنّي جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة ، فاتّقوا الله في المخالفة ، وأطيعوا لي فيما أدعوكم إليه ، ثمّ شرع في الدّعوة ، وأشار إليها بالقول المجمل ، فقال : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، إشارة الى استكمال القوّة النّظريّة بالاعتقاد الحقّ ، الّذي غايته التّوحيد.
وقال : (فَاعْبُدُوهُ) ، إشارة إلى استكمال القوّة العمليّة ، فإنّه بملازمة الطّاعة ، الّتي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي. ثمّ قرّر ذلك ، بأن بيّن أنّ الجمع بين الأمرين ، هو الطّريق المشهود عليه بالاستقامة.
وقيل (٢) : معناه وجئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربّكم ، وهو قوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، فإنّه دعوة الحقّ المجمع عليه فيما بين الرّسل ، الفارقة بين النّبيّ والسّاحر.
أو (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ، على أن الله ربي وربكم. وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) ، اعتراض.
__________________
(١) هكذا في المصدر. وفي النسخ : لشريعة.
(٢) أنوار التنزيل ١ / ١٦٤.