فإن قيل : ما معنى (مُدْبِرِينَ) وقد أغنى عنها (وَلَّوْا)؟ قلت : لا يغني عنها [(وَلَّوْا)] (١) ؛ فإن التولّي قد يكون بجانب دون جانب ؛ بدليل قوله : (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) (الإسراء : ٨٣) ؛ وإن كان ذكر الجانب هنا مجازا. ولا شك أنّه سبحانه لما أخبر عنهم أنهم صمّ لا يسمعون أراد تتميم المعنى بذكر تولّيهم في حال الخطاب ، لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة ؛ فإنّ الأصمّ يفهم بالإشارة ما يفهم السميع بالعبارة. ثم إن التولّي قد يكون بجانب ، مع لحاظه بالجانب الآخر ؛ فيحصل له إدراك بعض الإشارة ؛ فجعل الفاصلة (مُدْبِرِينَ) ليعلم أن التولّي كان بجميع الجوانب ؛ بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا ، فاحتجب المخاطب عن المخاطب ، أو صار من ورائه ، فخفيت عن عينه الإشارة ، كما صمّ أذناه عن العبارة ؛ فحصلت المبالغة من عدم الإسماع (٢) [بالكلية. وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي الإسماع البتة ؛ فهو من إيغال الاحتياط ؛ الذي أدمجت فيه المبالغة في نفي الاستماع]. (٢)
وقد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة في ضروب من الكلام شتى ، يجمعها (٣) معنى واحد ، كقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ [لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ..]) (٤) الآية (الإسراء : ٨٨).
وقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (البقرة : ٢٣).
وقوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) (هود : ١٣) ، كما يقول الرجل لمن يجحد : ما يستحقّ عليّ درهما ولا دانقا ولا حبّة [١٥ / أ] ، ولا كثيرا ولا قليلا. ولو قال : «ما يستحق عليّ شيئا» لأغنى في الظاهر ؛ لكنّ التفصيل دلّ (٥) على الاحتياط ، وعلى شدة الاستبعاد في الإنكار.
ومنه قوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (يس : ٢١) فإنّ المعنى تمّ
__________________
(١) من المطبوعة.
(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.
(٣) في المطبوعة : (يحملها).
(٤) من المطبوعة.
(٥) في المطبوعة : (أدلّ).