فقلت : والله ما أنشد إلّا أحسن شعر في أحسن معنى ولفظ. فقال : أين الشعر الّذي فيه عروق الذهب؟ فقلت : مثل ما ذا؟ فقال : مثل قول أبي ذؤاب : [من الكامل]
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم |
|
بعتيبة بن الحارث بن شهاب |
بأشدّهم كلبا على أعدائه |
|
وأعزّهم فقدا على الأصحاب (١) |
ـ وفي مثل هذا قال الشّاعر : [من الطويل]
زوامل للأشعار لا علم عندهم |
|
بجيّدها إلّا كعلم الأباعر |
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا |
|
بأوساقه أو راح ما في الغرائر (٢) |
وقال الآخر (٣) : [من الخفيف]
يا أبا جعفر تحكّم في الشّع |
|
ر وما فيك آلة الحكّام |
إنّ نقد الدّينار إلّا على الصّي |
|
رف صعب ، فكيف نقد الكلام |
قد رأيناك لست تفرق في الأش |
|
عار بين الأرواح والأجسام |
واعلم أنّهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبا وحكمة وكان غريبا نادرا ، فهو أشرف مما ليس كذلك ، بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص ، أن لا يعتبر في قضيّته تلك إلا الأوصاف التي تخصّ ذلك الجنس وترجع إلى حقيقته ، وأن لا ينظر فيها إلى جنس آخر ، وإن كان من الأول بسبيل ، أو متّصلا به اتصال ما لا ينفكّ منه.
ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصّياغة ، وأنّ سبيل المعنى الذي يعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التّصوير والصوغ فيه ، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أن محالا إذا أنت أردت النّظر في صوغ الخاتم ، وفي جودة العمل ورداءته ، أن تنظر إلى الفضّة الحاملة لتلك الصورة ، أو الذهب الذي وقع فيه
__________________
(١) البيتان لربيعة بن سعد ، وقيل : لداود بن ربيعة الأسدي ، انظر الإشارات (٢٨٨) ، والبيت الأول في الإيضاح (٣٣٢).
(٢) الشعر لمروان بن أبي حفصة. الزوامل : جمع زاملة وهو البعير يحمل عليه الرجل زاده ومتاعه. والأوساق جمع وسق : الحمل ، الغرائر : جمع غرارة ، وهي الجوالق ، الكامل للمبرد (٢ / ٩٠) ، واللسان (زمل).
(٣) اختلف المؤرخون في اسمه ففي مقدمة ديوان أبي نواس اسمه أحمد بن يحيى بن علي ، في (المصون : ١٢) هو يحيى بن علي أبو أحمد ... والأبيات موجودة في المصون (١٢ ـ ١٣) وفي وفيات الأعيان (٢ / ٢٠).