ظهور الهلال بدا من خلل السحاب ، وكأنّه قال أيضا : شممت الريحان من داري
كائنا من الطريق. فـ «من» الثانية لابتداء غاية الكون. وهذا الذي ذهب إليه باطل
عندي ، لأنّه قد تقدّم في باب المبتدأ والخبر أنّ المحذوف الذي يقوم المجرور مقامه
إنّما يكون مما يناسب معناه الحرف ، و «من» الابتدائية لا يفهم منها الكون ولا
الظهور ، فلا ينبغي أن يجوز حذفهما منه.
والذي زعم أنّ «من»
لتبيين الجنس استدلّ على ذلك بقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) . ألا ترى أنّ الأوثان كلّها رجس. وإنّما أتيت بـ «من»
ليبين ما بعدها الجنس الذي قبلها ، فكأنّك قلت : اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ،
أي : اجتنبوا الرجس الوثنيّ.
واستدلّ أيضا
بقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) . لأنّ المعنى عنده : وعد الله الذين آمنوا الذين هم
أنتم. لأن الخطاب إنّما هو للمؤمنين ، فلذلك لم يتصوّر أن تكون «من» تبعيضية. وكقوله
: (وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) . أي : من جبال هي برد لأنّ الجبال هي البرد لا بعضها.
ولا حجة لهم في
شيء من ذلك. أما قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) . فهو يتخرّج على أن يكون المراد بالرجس عبادة الوثن ،
فكأنّه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس الذي هو العبادة ، لأنّ المحرّم من
الأوثان إنّما هو عبادتها.
إلا أنّه قد
يتصوّر أن يستعمل الوثن في بناء ، أو غير ذلك مما لم يحرمه الشارع ، وتكون «من»
غاية مثلها في قوله : «أخذته من التابوت» . ألا ترى أن اجتناب عبادة الأوثان ابتداؤه وانتهاؤه في
الوثن ، وكذلك قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) ، قد تكون «من» مبعّضة ويقدّر الخطاب عامّا للمؤمنين
وغيرهم ، وكذلك قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) . قد يتصوّر أن تكون «من» فيه مبعّضة ، ويكون المعنى
مثله إذا جعلت «من» لتبيين الجنس ، وذلك بأن يكون قوله تعالى : (مِنْ جِبالٍ) بدلا من «السماء». لأنّ السماء مشتملة على الجبال التي
فيها كأنّه قال : وينزّل من جبال في السماء. ويكون «من برد» بدلا من «الجبال» بدل
شيء من شيء ، كأنّه قال : وينزّل من برد في
______________________