من سفر لأنّه من أجل إمهاله لهم عاملهم كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم به ، وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١].
لأنّ حقيقة (طغى) علا ، والاستعارة أبلغ ، لأن ـ طغى ـ علا قاهرا ، وكذلك : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) [الحاقة : ٦]. لأنّ حقيقة (عاتية) شديدة ، والعتو أبلغ ؛ لأنه شدة فيها تمرد.
وقوله عز اسمه : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧].
لأن انسلاخ الشيء عن الشيء هو أن يتبرأ منه ويزول عنه حالا فحالا ، وكذلك انفصال النهار عن الليل ، والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان ، وقوله عزوجل : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير : ١٨] لأنّ تنفسه هنا مستعار ، وحقيقته بدأ انتشاره ، و (تنفس) أبلغ لما فيه من التروح عن النفس ، وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الاسراء : ٢٩]. وحقيقته لا تمنع نائلك كل المنع ، والاستعارة أبلغ ؛ لأنّه جعل منع النائل بمنزلة غل اليد إلى العنق ، وحال المغلول أظهر ، وأمثال هذا في كتاب الله كثيرة ، وهو جار على عادة العرب المعروفة في الاستعارة.
ومنه قول طفيل الغنوي :
وجعلت كوري فوق ناجية |
|
يقتات شحم سنامها الرّحل (١) |
فإن استعارة هذا البيت مرضية عند جماعة العلماء بالشعر ، لأن الشحم لما كان من الأشياء التي تقتات ، وكان الرحل يتخوّنه ويذيبه ، كان ذلك بمنزلة من يقتاته ، وحسنت استعارته القوت للقرب والمناسبة والشبه الواضح.
__________________
(١) شاعر جاهلي من قبيلة غني ، كان يلقب طفيل الخيل بسبب كثرة وصفه الخيل. «معجم الشعراء» ١٤٧ ، ١٨٤. الكور : رحل البعير ، والناجية الناقة السريعة. يقتات : يأكل. البيت في «العمدة» ١ / ٢٧٤ ، و «الصناعتين» ٢٨٣ ، والبديع» ١٠ ، و «أنوار الربيع في أنواع البديع» ١ / ٢٤٨.