ولو ذهب ذاهب إلى أن الميم في مخر أصل غير مبدلة على أن يجعله من قوله عز اسمه : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) (فاطر : ١٢) (١) وذلك أن السحاب كأنها تمخر البحر ، لأنها في ما يذهب إليه عنه تنشأ ، ومنه تبدأ ، لكان عندي مصيبا غير مبعد ، ألا ترى إلى قول أبي ذؤيب في وصف السحاب (٢) :
شربن بماء البحر ثم ترفّعت |
|
متى لجج خضر لهن نئيج (٣) |
وأخبرنا أبو علي أيضا يرفعه بإسناده إلى أبي عمرو الشيباني قال : «يقال : ما زلت راتما على هذا وراتبا ، أي مقيما» (٤) فالظاهر من أمر هذه الميم أن تكون بدلا من باء راتب ، لأنا لم نسمع في هذا الموضع رتم (٥) مثل رتب.
وتحتمل الميم في هذا عندي أن تكون أصلا غير بدل ، من الرّتيمة ، وهي شيء كان أهل الجاهلية يرونه بينهم ، وذلك أن الرجل منهم كان إذا أراد سفرا عمد إلى غصنين من شجرتين تقرب إحداهما من الأخرى ، فعقد أحدهما بصاحبه ، فإذا عاد ورأى الغصنين معقودين بحالهما قال : إن امرأته لم تخنه بعده ، وإن رأى الغصنين قد انحلا قال : امرأته قد خانته ، قال الراجز (٦) :
هل ينفعنّك اليوم إن همّت بهمّ |
|
كثرة ما توصي وتعقاد الرّتم (٧) |
__________________
(١) الفلك : السفينة ، السفن. القاموس المحيط (٣ / ٣١٦). مواخر : (م) ماخرة ، والماخرة السفينة ، مخرت البحر مخرا ومخورا : أي جرت تشق الماء. والمقصود بمواخر أي جواري تشق الماء شقا.
(٢) السحاب : الغيم سواء كان فيه ماء أم لم يكن.
(٣) متى : في لغة هذيل تعني من ، وتعني أيضا : وسط الشيء. لسان العرب (١٥ / ٤٧٤). لجج : اللجة : معظم البحر وتردد أمواجه (ج) لجج ولجاج. القاموس (١ / ٢٠٥). نئيج : الصوت الذي ينتج نتيجة للمرور السريع. لسان العرب (٢ / ٣٧١) مادة / نأج.
(٤) ذكر ذلك ابن السكيت في كتابه الإبدال.
(٥) رتم : الرتيمة : خيط يشد في الإصبع تستذكر به الحاجة. القاموس (٤ / ١١٦).
(٦) ذكره صاحب اللسان في مادة (رتم) دون أن ينسبه. (١٢ / ٢٢٥). انظر / شرح معاني القرآن للفراء (١ / ٢١٧).
(٧) تعقاد الرتم : يقال أن الرجل إذا أراد سفرا عمد إلى شجرة فشد غصنين منها فإن رجع ووجدهما على حالهما قال إن أهله لم تخنه وإلا فقد خانته. والشاعر هنا يسخر من ذلك الذي يعقد الرتم لأنها لا تغني عن الخيانة. وقوله (هل ينفعك) أسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه النصح والإرشاد.