وهذا وإن كان مذهبا مدخولا عندنا ، وهو بضد الصواب الذي هو مذهب سيبويه ، فقد قال به رجل يعد جبلا في العلم (١) ، وإليه أفضت مقالات أصحابنا ، وهو الذي نقلها وقرّرها ، وأجرى الفروع والعلل والمقاييس عليها. وعلى أن الكوفيين أيضا قد خالفوا سيبويه وأصحابه (٢) ، وأبا العباس ومن رأى رأيه ، في انتصاب المستثنى ، فهذا كلّه يوجدك العلة التي لها فارقت «إلا» حروف الجر.
واعلم أن الفعل إذا أوصله حرف الجر إلى الاسم الذي بعده ، وجرّه الحرف ، فإن الجار والمجرور جميعا في موضع نصب بالفعل الذي قبلهما ، وذلك قولك : مررت بزيد ، فزيد مجرور ، وبزيد جميعا في موضع نصب. والدلالة على صحة هذه الدّعوى (٣) مطّردة من وجهين : أحدهما أن عبرة هذا الفعل الذي يصل بحرف الجر قد تجدها فيما يصل بنفسه.
ألا ترى أن قولك : مررت بزيد ، في معنى جزت زيدا ، وكذلك نظرت إلى عمرو في معنى : أبصرت عمرا ، وانصرفت عن محمد : أي جاوزت محمدا. فهذا من طريق المعنى. وأما من طريق اللفظ ، فإن العرب قد نصبت ما عطفته على الجار والمجرور جميعا ، منصوبا ، لأنهما جميعا منصوبا الموضع ، وذلك قولهم : مررت بزيد وعمرا ، ونظرت إلى محمد وخالدا.
__________________
(١) يعد جبلا في العلم : تشبيه يفيد رسوخ أبي العباس في العلم.
(٢) مذهب سيبويه أن الناصب للمستثنى هو ما قبل إلا من الكلام. (انظر الكتاب (١ / ٣٦٩) طبعة بولاق ، وهو ما أشار إليه المؤلف في هذا المقام. ومذهب الفراء من الكوفيين أن المستثنى منصوب بإلا ، على تقدير أن إلا مركبة من (إنّ) بالتشديد ، و (لا) ثم خففت إن ، وأدغمت في لا ، فنصبوا بها في الإيجاب ، اعتبارا بإن ، وعطفوا بها في النفي ، اعتبارا بلا. وحكي عن الكسائي من الكوفيين أنه قال : إنما نصب المستثنى ، إذ تأويله في : قام القوم إلا زيدا : قام القوم إلا أنّ زيدا لم يقم. كما حكي عنه أنه مشبه بالمفعول. (انظر / ص ١١٨ ـ ١٢٢) من كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين ، طبع ليدن سنة ١٩٣٣.
(٣) الدعوى : ما يدعى ، ويقال : دعوى فلان كذا ، والجمع دعاوي ، ودعاو. وفي القضاء : قول يطلب به الإنسان إثبات حق على غيره. مادة (دعا). اللسان (٢ / ١٣٨٨)