فتكتمل أدوات الشاعر ليعزف على وتر الوجع ، تكتمل أدوات الفن كلّها ، ريشة ملهمة تغنّي ووتر يعزف ، ويبدأ عزف آخر على وتر الغزل لتنكشف تضحيات الشاعر وعناؤه وذوبانه ثمّ نفيه ثم بحثه عن قناع يندرج تحت ظلاله فيجده في نورسٍ منفيّ تنكره بيئته البحرية وتمنعه المدن بظواهرها غير الطبيعية من الطيران فيعاني غيبة وانقطاعاً عن المكان ، لكنه يتواصل مع الذكرى تواصلاً حياً دفّاقاً ، له موعدٌ محدّد يجدّد الذكرى التي يحملها ما بين عينيه ويغرس حنوّه والتحامه معها ثم يرحل أيضاً.
والعبّادي يحاصر تجربته بجوّ محزنٍ حادّ ويمسحها بجناح رومانسي محلّق ويطوّع نَفَساً ونبرة إيقاعيتين متبادلتين ومتعامدتين في تتابع مقاطع القصيدة ، فمع أفقية النَفَس ( الذي لا يفارق القافية بيسرٍ بل يختم مقاطع القصيدة بقافيةٍ همزيةٍ متكرّرة ـ الدماء ، الفناء ، العناء ، العراء ـ وهذه الظاهرة فيها بصمات الإكثار من النظم على طريقة العمود ) تقفز تلك النبرة المتخفية لتلملم شتات التداعيات ليسلم تأمله الشارد من أضطرابات اللاشعور الذي يكشف رغبات وأماني الشاعر المكبوتة في تجاوز الألم التقليدي وإكتشاف شعائر أخرى للتعامل مع المتخيَّل عند الجماعة ، فهو تجنّب السطحية والتقريرية والمباشرة لصالح الغموض وعَمَه الرموز الذي قد يؤدي إلى العجز عن تصوّر أو تشكيل رموزه عند المتلقّين مما يحقّق فجوة عريضة على مستوى التوصيل.