وهذا مما يشهد بفساد ما ذهبت إليه ، وأيضا فإنّ الركوب لم يجئ في كلام العرب بمعنى الجعل كما جاء الترك في مثل الشاعر : [الكامل]
٥٢٩ ـ وتركتنا لحما على وضم |
|
لو كنت تستبقي على اللّحم |
فعدّت «تركت» لمّا حمله على معنى «جعلت» ، فأمّا الركوب بمعنى الجعل فليس بموجود في شيء من كلام العرب.
المسألة السابعة : قال أبو نزار : وهذه المسألة سئلت عنها بغزنة لمّا دخلتها ، فبيّنت مشكلها للجماعة وأوضحتها ، وذلك أني سئلت عن قول الراجز : [الرجز]
٥٣٠ ـ وقوّل إلّا ده فلا ده
فذكرت أنّ هذه من باب كلمات نابت عن الفعل فعملت عمله ، وبعضها في الأمر وبعضها في الخبر ، نحو : صه ومه ، وبله زيدا ، وهيهات بمعنى بعد ، و «ده» في كلام العرب بمعنى صحّ أو يصحّ ، ألا ترى أنّ قوما جاؤوا إلى سطح الكاهن وخبؤوا له خبيئة فسألوه فلم يصرّح فقالوا : لا ده ، أي : لا يصحّ ما قلت ، فقال لهم : «إلّا ده فلا ده ، حبة برّ في إحليل مهر» فأصاب ، فكأنه قال : إلّا يصحّ فلا يصحّ أبدا ، لكنني أقول في المستقبل ما تشهد له الصحة ، وكان كما قال ، إلّا أنّ التنوين الداخل على هذه الكلمة ليس هو على نحو التنوين الداخل على رجل وفرس ، ولكنه تنوين دخل على نوع من تنكير.
قال الرادّ عليه : قولك : «ده اسم من أسماء الفعل» ليس بصحيح على مذهب الجماعة ومن له حذق بهذه الصناعة ، والصحيح في هذه الكلمة أنّها اسم فاعل من دهي يدهى فهو ده وداه ، والمصدر منه الدّهاء والدّهي فيكون المراد بده أنّه فطن ، لأنّ الدّهاء الفطنة وجودة الرأي ، فكأنه قال : إلّا أكن دهيّا أي : فطنا فلا أدهى أبدا ، هذا أصله ، ثم أجريت هذه اللفظة مثلا إلى أن صارت يعبّر بها عن كل فعل تغتنم الفرصة في فعله ، مثال ذلك أن يقول الإنسان لصاحبه وقد أمكنت الفرصة في طلب ثأر : إلّا ده فلا ده أيّ : تطلب ثأرك الآن فلا تطلبه أبدا ، وهذا الرجز لرؤبة ، وقبله : [الرجز]
__________________
٥٢٩ ـ الشاهد لحارث بن وعلة الذهلي في شرح الحماسة للمرزوقي (ص ٢٠٦).
٥٣٠ ـ الشاهد لرؤبة بن العجاج في ديوانه (ص ١٦٦) ، ومجاز القرآن (١ / ١٠٦) ، وشرح المفصّل (٤ / ٨١).