أحدهما
: أنه لا يجب أن
يكون دلالة على اعتقاد القوم في هذا ما نسبه السائل إلى أنهم مريدوه ومعتقدوه ،
ألا ترى أن من يقول : إنّ الحركة تحدث بعد الحرف ومن يقول إنها معه ، قد أطلقوا
جميعا ـ هذا القول الذي هو قولهم ـ أن الواو حذفت من يعد ونحوه لوقوعها بين ياء
وكسرة ، فلو كانوا يريدون ما عزوته إليهم وحملته عليهم لكانوا متناقضين ، وهذا أمر
لا يظن بهم.
والآخر : أن
أكثر ما في هذا أن يكون القوم أرادوه ، وهذا لا يصلح دليلا على وضع الخلاف ، لأن
هذا موضع إنما يتحاكم فيه إلى النفس والحسّ ، ولا يرجع فيه إلى إجماع لأن إجماع
النحويين في هذا ونحوه لا يكون حجة ، لأن كلامهم إنما يرجع فيه إلى التأمل والطبع
، لا إلى التبعية والشرع ، وهذا كله يشهد بصحة مذهب سيبويه في أن الحركة حادثة بعد
حرفها المتحرك بها.
قال : وقد كنا
قلنا فيه قديما قولا آخر مستقيما ، وهو أن الحركة قد ثبت أنها بعض حرف ؛ فالفتحة
بعض الألف والكسرة بعض الياء والضمة بعض الواو ، فكما أن الحرف لا يجامع حرفا آخر
في وقت واحد فينشآن معا في وقت واحد ، فكذا بعض الحرف لا يجوز أن ينشأ مع حرف آخر
في وقت واحد ، لأن حكم البعض في هذا جار مجرى حكم الكل ، ولا يجوز أن تتصور أن
حرفا من الحروف حدث بعضه مضافا لحرف وبقيته من بعده في غير ذلك الحرف لا في زمان
واحد ولا في زمانين ؛ فهذا يفسد قول من قال : إن الحركة تحدث مع حرفها المتحرك بها
وقبله أيضا ، ألا ترى أن الحرف الناشئ عن الحركة لو ظهر لم يظهر إلا بعد الحرف
المتحرك بتلك الحركة وإلا فلو كانت قبله لكانت الألف في نحو : ضارب ليست تابعة
للفتحة لاعتراض الضاد بينهما ، والحس يمنعك ويحظر عليك أن تنسب إليه قبوله اعتراف
معترف بين الفتحة والألف التابعة لها في نحو : ضارب وقائم ، وكذلك القول في الكسرة
والياء والضمة والواو إذا تبعتاهما ، وهذا تناه في البيان والبروز إلى حكم العيان
، انتهى.
وقد جزم أكثر
النحاة بالقول الذي صار إليه سيبويه ، فقال ابن الخباز في (شرح الدرة) ، بعد أن
تكلّم على إعراب الاسم المنصرف : وهاهنا ترتيب ، وهو أن حرف الإعراب قبل الحركة ،
والتنوين بعد الحركة لكن خالفه أبو البقاء العكبري فقال في (اللباب) : الحركة مع
الحرف لا قبله ولا بعده ، وقال قوم منهم ابن جنّي : هي بعده ، والدليل على الأول
من وجهين :
أحدهما
: أن الحرف يوصف
بالحركة فكانت معه كالمدّ والجهر والشدة ونحو ذلك ، وإنما كانت كذلك لأن صفة الشيء
كالعرض والصفة العرضية لا تتقدم الموصوف ولا تتأخر عنه إذ في ذلك قيامها بنفسها.