والأوّل باطل بالضرورة ؛ لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليهالسلام ، وقد نقل المحدِّثون كلّهم أو جلّهم والمؤرِّخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرضٍ في ذلك.
والثاني يدلّ على ما قلناه ؛ لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة ، وشدا طرفاً من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف على كرّاسٍ واحدٍ يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بدّ أن يفرِّق بين الكلامين ، ويميِّز بين الطريقتين ، ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفّحنا ديوان أبي تمام ، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره ، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسه وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر ، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذوق خاصّة.
وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، وأسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة ، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه وأوسطه كآخره ، وكلُّ سورة منه وكلّ آية مماثلةٌ في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك ، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليهالسلام.
واعلم أنّ قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قِبَل له به ، لأنّا متى فتحنا