الاستاذ فرات الأسدي
فرات الأسدي ـ شاعراً ـ مشغول بالكثافة على حساب كلّ الأبعاد والإمكانات الاُخرى ، وهذه الكثافة داخلة في كلّ مستويات النصّ صوتاً ونحواً وصرفاً وتركيباً ودلالة وترميزاً ، ممّا يعسّر على المحاولة النقدية المختصرة أن تنصفه وتعطيه حقّه ، وكذا الحال بالنسبة إلى القراءة المتعجّلة والتلقّي السريع.
ولأنّه يسحب هذا المفهوم المكاني ( الكثافة ) إلى أرضيّة الشعر الذي لا يتعاطى مع المكان إلّا تجوّزاً فستبدو الصعوبة شاخصة في الاقتراب من نصّه ، ففرات الأسدي مشغوف بفنّ العمارة وهو أكثر الفنون التصاقاً بالمكان ، فنرى الحسّ المعماري يطغى على نصوصه ومن هنا تبدو المفارقة ، فمعظم الأدوات الشعرية زمانية ـ فعلاً وأداءاً وتأثُّراً ـ فينتج من هذا التضادّ حاجز سميك في عملية توصيل النص.
وسنلاحظ في هذه القصيدة ( البوح المشتهى ) أنّ فرات الأسدي قد أعمل حسّه المعماري المكاني على الإيقاع الشعري الزماني ، وقبل هذا لنشرح العلاقة بين الكثافة ـ كمفهوم فيزيائي ـ وبين المكان ـ كمفهوم فلسفي ـ وكيف يلتقيان عند فرات الأسدي في معالجته الجمالية لهذا الالتحام كأداة تتمثّل في الكتلة التي يقاربها الشاعر ـ تنظيماً وترتيباً وتوحيداً ـ فتتجلّى عنده كحسّ معماري يعامل المواد التعبيرية الأوّليّة على أساسه في تجربته الشعرية ، فينبري للتصدّي للبنية الإيقاعية من خلال استخدامه لخمسة أوزان شعرية هي ( الخفيف المهذّب ـ هذا المصطلح أطلقه العلّامة الدكتور مصطفى جمال الدين في كتابه الإيقاع في الشعر العربي لصيغة : فاعلاتن مستفعلن فعلن من بحر الخفيف ـ الخفيف المجزوء ، المتدارك المنهوك ، المتدارك المجزوء ، البسيط ) ليصل بعدها إلى كتابة بقية القصيدة شعراً حرّاً مدوّراً على بحر المتدارك.