الحسن من الجهتين ، ووجبت له المزية بكلا الأمرين ، والإشكال في هذا الثالث ، وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه ، وتراك قد خفت فيه على النظم فتركته ، وطمحت ببصرك على اللفظ ، وقدرت في حسن كان به ، باللفظ أنه للفظ خاصة.
ومما تقدم ترى أن هاهنا أساسا لبحث علمين متمايزين ، فنسمي العلم الذي يبحث عن فصاحة النظم علم معاني النحو ، أو علم المعاني على سبيل الاختصار في التسمية ، والعلم الذي يبحث عن فصاحة اللفظ ، أو عن معنى المعنى بعلم البيان ، وتكون التسمية مجرد اصطلاح ، وإلا فالكل بحث بياني.
(٥) إن الذي لفت نظر السكاكي إلى تسمية العلم الأول (علم المعاني) أن عبد القاهر أخذ يبدي ويعيد ويقول : ليست أسرار النظم إلا معاني النحو ، فاختزل هذا الاسم وسماه (علم المعاني).
(٦) إن من العجب حقا أن تكون فوائد معرفة علم المعاني معرفة أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال ، فنعرف المواضع التي يكون فيها الإيجاز ، والتي يكون فيها الإطناب ، والمواضع التي يؤكد فيها الكلام ، والمواضع التي لا يؤكد فيها ، ولم يكن من فائدته أن ننشىء كلاما مشتملا على الخصوصيات التي تعلمناها من هذا العلم ، بينا نقول : إن من فائدة معرفة علم البيان أننا نستطيع أن نعبر عن المعنى الواحد بأساليب مختلفة ؛ ففائدة معرفة هذا العلم إيجابية ، وهي : القدرة على إنشاء الكلام العربي الفصيح ، ولكن فائدة معرفة علم المعاني هي مجرد المعرفة فقط ، ويكون ذلك كافيا ، وإن شئنا أنشأنا كلاما فصيحا مطابقا لمقتضى الحال.
وقد كان من الخير أن نجعل الفائدة من معرفة العلم الأول كالفائدة من معرفة العلم الثاني ، والعكس بالعكس ؛ فإما أن نقول : إنه علم يعرف به إيراد الأساليب العربية المختلفة المطابقة لمقتضى الحال ، بعد النظر في المقامات واختيار الألفاظ التي تناسب كل مقام منها ، حتى تكون الألفاظ وفق هذه الأحوال والمقامات ، أو نقول : إن علم البيان علم نعرف به الفروق بين الأساليب المختلفة الدالة على المعنى الواحد ؛ لنحاكيها عند التعبير عن مثل هذه المعاني ، فنجري على السنن العربي ، ونسلك الطريق التي سلكوها ، وبذا يكون توافق بين أغراض العلمين ، لا تخالف بينهما ، كما هو واضح من النظر في كلامهم.