العقلي (١). وهذا النوع من المجاز تستعمل فيه الألفاظ المفردة في موضوعها الأصلي ويكون المجاز عن طريق الإسناد. واذا ما ذهبنا نستقصي بحث هذا اللون من المجاز عند الأوائل لانجدهم يشيرون الى اسمه هذا أو الى اسمه الآخر «المجاز العقلي» وإن كانت في كتاب سيبويه بعض أمثلته كقول الخنساء :
ترعى إذا نسيت حتى اذا ادّكرت |
فإنما هي إقبال وإدبار |
وكقولهم : «نهارك صائم» و «ليلك قائم» (٢) وهذا الكلام محمول عنده على السعة والحذف.
وفي كتاب «الكامل» للمبرّد أمثلة من هذا اللون كقول جرير :
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى |
ونمت وما ليل المطيّ بنائم |
وقول رؤية بن العجّاج :
حارث قد فرّجت عني غمي |
فنام ليلي وتجلّى همّي (٣) |
والمبرّد يذهب في ذلك مذهب سيبويه ويرى أنّ هذا الاسلوب مبالغة الى جانب السعة والحذف.
وتردّدت هذه الأمثلة في كتاب الآمدي (٤) وكتاب ابن فارس الذي سمّاه «إضافة الفعل الى ما ليس بفاعل في الحقيقة» (٥). ولكنّ هؤلاء لم يسمّوه باسمه ويرجع الفضل في فصله عن المجاز اللغوي الى عبد القاهر الذي أولاه عناية كبيرة وقال في تعريفه : «وحدّه أنّ كلّ كلمة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في الفعل لضرب من التأول فهو مجاز» (٦). وسماه مجازا عقليا ومجازا حكميا ومجازا في الإثبات وإسنادا مجازيّا (٧). وسمّاه السّكّاكي مجازا عقليا وتابعه ابن مالك والقزويني وشرّاح التلخيص (٨) وعلّل المتأخّرون هذه التسميات المختلفة فقال ابن يعقوب المغربي : «ومن الإسناد مطلقا مجاز عقلي لأنّ حصوله بالتصرّف العقلي ، ويسمّى مجازا حكميّا لوقوعه في الحكم بالمسند اليه ويسمّى أيضا مجازا في الإثبات لحصوله في إثبات أحد الطّرفين للآخر ، والسلب حقيقته ومجازه تابع لما يحقّق في الإثبات. ويسمّى أيضا إسنادا مجازيّا نسبة الى المجاز بمعنى المصدر لأنّ الإسناد جاوز به المتكلّم حقيقته وأصله الى غير ذلك» (٩). وسمّاه السّيوطي «المجاز في التركيب» (١٠) أيضا. ورأى السبكي أن يسمّى «مجاز الملابسة» ولا يقال «مجاز إسناد» لقلة استعمال الإسناد بين الفعل وفاعله أو ما قام مقامه (١١). ولعل الذي دعاه الى ذلك أنّه وجد علاقته الملابسة كما يفهم من كلام القزويني وأنّه لا بدّ منها في كل مجاز من هذا النوع.
إنّ عبد القاهر فتح السبيل للبلاغيين بدراسته العميقة لهذا النوع من المجاز ، وقد نبّه العلوي الى هذه الحقيقة فقال : «اعلم أنّ ما ذكرناه في المجاز الإسنادي العقلي هو ما قرّره الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجاني واستخرجه بفكرته الصافية وتابعه على ذلك الجهابذة من أهل الصناعة كالزمخشري
__________________
(١) التبيان ص ١٠٦ ، الاتقان ج ٢ ص ٣٦.
(٢) الكتاب ج ١ ص ١٦٩ ، وتنظر ص ٨٠ ، ٨٩ ، ١٠٨ ، ١١٠.
(٣) الكامل ج ١ ص ١١٨ ، ١٨٨ ، ج ٣ ص ١١٧٠ ، وينظر جمهرة أشعار العرب ص ١١.
(٤) الموازنة ج ١ ص ١٦٥ ، ١٩١ ، ٢١٦.
(٥) الصاحبي ص ٢١٠.
(٦) أسرار البلاغة ص ٣٥٦ ، الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ٢.
(٧) دلائل الاعجاز ص ٢٢٧ ، ٢٣١ ، أسرار البلاغة ص ٣٣٨.
(٨) مفتاح العلوم ص ١٨٥ ، المصباح ص ٥٩ ، الايضاح ص ٢٦ ، التلخيص ص ٤٥ ، شروح التلخيص ج ١ ص ٢٣١ ، المطول ص ٥٧ ، الاطول ج ١ ص ٧٢.
(٩) مواهب الفتاح ج ١ ص ٢٣١.
(١٠) الاتقان ج ٢ ص ٣٦.
(١١) عروس الافراح ج ١ ص ٢٣١ وما بعدها.