والدليل ، وأحج خصمي أي أغلبه بالحجة (١).
والاحتجاج النظري لون من ألوان الكلام ، وسماه بهذا الاسم جماعة منهم أبو حيان الاندلسي وابن قيّم الجوزية وابن النقيب (٢) ، وسماه الزركشي «إلجام الخصم بالحجة» (٣) ، ولكن البلاغيين يسمونه «المذهب الكلامي».
وحقيقة هذا النوع احتجاج المتكلم على خصمه بحجة تقطع عناده وتوجب له الاعتراف بما ادعاه المتكلم وابطال ما أورده الخصم. وسمي المذهب الكلامي لأنّه «يسلك فيه مذهب أهل الكلام في استدلالهم على إبطال حجج خصومهم. والمراد بأهل الكلام علماء أصول الدين» (٤).
والمذهب الكلامي هو الفن الخامس من بديع ابن المعتز ، قال : «وهو مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي ، وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئا ، وهو ينسب الى التكلف ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» (٥) ولم يحدد هذا الفن ، ولعله يريد به اصطناع أساليب الفلاسفة والمتكلمين في الجدل والاستدلال ، ولذلك نفاه عن القرآن الكريم.
ولم نعثر في كتب الجاحظ المعروفة على هذا المصطلح ، ولكنه يسخر أحيانا من الذين يتكلفون أداء الكلام تشبها بالمتكلمين (٦).
والمذهب الكلامي عند المتأخرين هو ايراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام ، وذلك أن يكون بعد تسليم المقدمات مقدمة مستلزمة للمطلوب ، وهذا ما نجده في كتاب الله وكلام العرب الذي استشهد به البلاغيون. وقد ذكره العسكري وأشار الى أن ابن المعتز نسبه الى التكلف (٧) ، وتحدث في أول كتاب الصناعتين عن وضوح الدلالة وقرع الحجة وهو مما يدخل في هذا الباب. قال : «ومن وضوح الدلالة وقرع الحجة قول الله سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(٨). فهذه دلالة واضحة على أنّ الله تعالى قادر على إعادة الخلق مستغنية بنفسها عن الزيادة فيها ؛ لأنّ الاعادة ليست بأصعب في العقول من الابتداء ، ثم قال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)(٩) ، فزادها شرحا وقوة ؛ لأنّ من يخرج النار من أجزاء الماء وهما ضدان ليس بمنكر عليه أن يعيد ما أفناه. ثم قال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)(١٠) فقوّاها أيضا وزاد في شرحها وبلغ بها غاية الايضاح والتوكيد لأنّ إعادة الخلق ليست بأصعب في العقول من خلق السماوات والأرض ابتداء» (١١). وهذا هو المذهب الكلامي عند المتأخرين ، أما ما ذكره في فصل المذهب الكلامي فهو متابعة لابن المعتز في معنى هذا الفن وأمثلته (١٢).
وتحدث عنه ابن رشيق في باب التكرار ونقل كلام ابن المعتز وامثلته ، وأقرّ بذلك النقل فقال : «وقد نقلت هذا الباب نقلا من كتاب عبد الله بن المعتز إلّا ما لاخفاء به عن أحد من أهل التمييز ، واضطرني الى ذلك قلة الشواهد فيه إلا ما ناسب قول أبي نواس :
سخنت من شدة البرودة حتى |
صرت عندي كأنك النار |
__________________
(١) اللسان (حجج).
(٢) البحر المحيط ج ٣ ص ٨٩ ، ٣٠٥ ، ج ٥ ص ٣٥٠ ، الفوائد ص ١٣٦ ، شرح عقود الجمان ١٢٣ ، حلية اللب ١٢٤.
(٣) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٦٨.
(٤) جوهر الكنز ص ٣٠٢.
(٥) البديع ص ٥٣.
(٦) الحيوان ج ٥ ص ١٠ وما بعدها.
(٧) كتاب الصناعتين ص ٤١٠.
(٨) يس ٧٨ ـ ٧٩.
(٩) يس ٨٠.
(١٠) يس ٨١.
(١١) كتاب الصناعتين ص ١٧ ـ ١٨.
(١٢) كتاب الصناعتين ص ٤١٠.