بلغ بلاغة : صار بليغا (١).
ولعل أول ما تردد من معنى البلاغة في سؤال معاوية بن أبي سفيان لصحار ابن عياش ، فقد قال له : «ما هذه البلاغة التي فيكم؟» قال : «شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا». وقال له معاوية : «ما تعدّون البلاغة فيكم؟» قال : «الايجاز». قال له معاوية : «وما الايجاز؟» قال : «أن تجيب فلا تبطيء وتقول فلا تخطىء» (٢).
وفي كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ تعريفات كثيرة للبلاغة عند العرب وغيرهم (٣) وفسرها عمرو بن عبيد في أول الأمر تفسيرا دينيا ثم قال : «فكأنك تريد تخير اللفظ في حسن الافهام : وقال : «إنّك اذا أوتيت تقرير حجة الله في عقول المكلفين وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالالفاظ المستحسنة في الآذان ، المقبولة عند الاذهان رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسّنّة كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستحققت على الله جزيل الثواب» (٤).
وقال الاصمعي عن البليغ إنّه «من طبق المفصل وأغناك عن المفسر» (٥).
وقال العتابي إنّ «كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ ، فإن أردت اللسان الذي يروق الألسنة ويفوق كل خطيب فاظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق» (٦).
واكتفى الجاحظ بذكر قول بعضهم وهو من أحسن ما اجتباه ودوّنه : «لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظة ولفظه معناه فلا يكون لفظه الى سمعك أسبق من معناه الى قلبك» (٧).
وقال المبرد : «إنّ حق البلاغة إحاطة القول بالمعنى واختيار الكلام وحسن النظم حتى تكون الكلمة مقارنة أختها ومعاضدة شكلها وأن يقرب بها البعيد ويحذف منها الفضول» (٨).
وقال العسكري : «البلاغة من قولهم : بلغت الغاية إذا انتهيت اليها وبلغتها غيري ومبلغ الشيء منتهاه.
والمبالغة في الشيء الانتهاء الى غايته فسميت البلاغة بلاغة لأنّها تنهي المعنى الى قلب السامع فيفهمه وسميت البلغة بلغة لانك تتبلغ بها فتنتهي بك الى ما فوقها وهي البلاغ أيضا» (٩). وأبدى رأيه في تعريفها وحدّها بقوله : «البلاغة كل ما تبلغ به قلب السامع فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك ، مع صورة مقبولة ومعرض حسن» (١٠). والبلاغة عنده من صفة الكلام لا من صفة المتكلم ولذلك لا يجوز أن يسمى الله ـ سبحانه ـ بليغا إذ لا يصح أن يوصف بصفة موضوعها الكلام.
ولم يعرّف الخفاجي البلاغة تعريفا دقيقا واكتفى بالاشارة الى اضطراب القوم في حدّها ، وفرّق بينها وبين الفصاحة فقال : «والفرق بين الفصاحة والبلاغة أنّ الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا تكون إلا وصفا للالفاظ مع المعاني. لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة ، وكل كلام بليغ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا» (١١).
ولم يعرّفها عبد القاهر ، والفصاحة والبلاغة والبراعة
__________________
(١) اللسان (بلغ).
(٢) البيان ج ١ ص ٩٦.
(٣) البيان ج ١ ص ٨٨.
(٤) البيان ج ١ ص ١١٤ ، عيون الاخبار ج ٢ ص ١٧٠.
(٥) البيان ج ١ ص ١٠٦.
(٦) البيان ج ١ ص ١١٣ ، وينظر الممتع ص ٣١١.
(٧) البيان ج ١ ص ١١٥.
(٨) البلاغة ص ٥٩.
(٩) كتاب الصناعتين ص ٦.
(١٠) كتاب الصناعتين ص ١٠.
(١١) سر الفصاحة ص ٦٠.