الشاهد» (١).
ولعلّ الأصمعي أوّل من سمّاه التفاتا ، فقد سأل إسحاق بن إبراهيم الموصلّي : أتعرف التفاتات جرير؟
قال : وما هي؟ فأنشده :
أتنسى إذ تودّعني سليمى |
بفرع بشامة سقي البشام |
ألا تراه مقبلا على شعره ثم التفت الى البشام فدعا له (٢).
وأدخله ابن قتيبة في باب «مخالفة ظاهر اللّفظ معناه» وقال : «ومنه أن تخاطب الشاهد بشيء ثم تجعل الخطاب له على لفظ الغائب كقوله ـ عزوجل ـ :(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها)(٣).
قال الشاعر :
يا دار ميّة بالعلياء فالسّند |
أقوت وطال عليها سالف الأبد |
وكذلك أيضا تجعل خطاب الغائب للشاهد كقول الهذلي :
يا ويح نفسي كان جدة خالد |
وبياض وجهك للتراب الأعفر (٤) |
وقال المبرد : «والعرب تترك مخاطبة الغائب الى مخاطبة الشاهد ومخاطبة الشاهد الى مخاطبة الغائب. قال الله ـ جلّ وعزّ ـ : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)(٥) ، كانت المخاطبة للأمة ثم انصرفت الى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إخبارا عنهم.
وقال عنترة :
شطّت مزار العاشقين وأصبحت |
عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم |
فكان يتحدث عنها ثم خاطبها» (٦).
والالتفات أول محاسن الكلام التي ذكرها ابن المعتز بعد فنون البديع الخمسة وهي : الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها والمذهب الكلامي ، وقال في تعريف الالتفات : «هو انصراف المتكلم عن المخاطبة الى الإخبار ، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك.
ومن الالتفات الانصراف من معنى يكون فيه الى معنى آخر» (٧).
وسماه ابن وهب «الصّرف» وقال «وأما الصرف فانهم يصرفون القول من المخاطب الى الغائب ومن الواحد الى الجماعة» (٨). وسماه ابن منقذ «الانصراف» وقال : «هو أن يرجع من الخبر الى الخطاب من الخطاب الى الخبر» (٩). وسمّاه كذلك ابن شيث القرشي وقال : «هو ان تبتدىء المخاطبة بهاء الكناية ثم تنصرف الى المخاطبة بالكاف ، وهذا يحتمل إذا كان الأمر مما تكنيه مهما دون غيره» (١٠).
وسماه قوم الاعتراض (١١) ، وهو فن آخر ، وقد تقدم في الاطناب بالاعتراض ، والاعتراض ، ولكن الاخرين سموه التفاتا ، وبدأ هذا الاسلوب يدخل في دراسة البلاغة والنقد ، وقد تحدث عنه قدامة في نعوت المعاني وقال : «هو أن يكون الشاعر آخذا في معنى فكأنه يعترضه إما شك أو ظن بأنّ رادا يردّ عليه قوله أو
__________________
(١) مجاز القرآن ج ٢ ص ١٣٩ ، وينظر ج ١ ص ١١ ، ٢٥٢ ، ٢٧٣.
(٢) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٥٧ ، كتاب الصناعتين ص ٣٩٢ ، العمدة ج ٢ ص ٤٦.
(٣) يونس ٢٢.
(٤) تأويل مشكل القرآن ص ٢٢٣.
(٥) يونس ٢٢.
(٦) الكامل ج ٢ ص ٧٢٩.
(٧) البديع ص ٥٨ ، وينظر العمدة ج ٢ ص ٤٦ ، المنصف ٦٢ ، المنزع البديع ص ٤٤٢ ، الروض المريع ص ٩٨.
(٨) البرهان في وجوه البيان ص ١٥٢.
(٩) البديع في نقد الشعر ص ٢٠٠.
(١٠) معالم الكتابة ص ٧٦.
(١١) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٥٧ ، العمدة ج ٢ ص ٤٥.