نعم وقف فريق من النحاة موقفا يتسم بالشدة والعنف تجاه القراء ، قال «أبو الفتح» في «الخصائص» ١ : ٧٣ : «ولم يؤت القوم في ذلك من ضعف أمانة ، ولكن أتوا من ضعف دراية».
ومع كل هذا لم يصرفوا أنفسهم عن الاستشهاد بالقرآن ، وهذه المؤلفات النحوية بين أيدينا شاهد صدق على صحة ما ذهبت إليه.
أما الحديث النبوي فالقدامى لم يستشهدوا به في مسائل النحو والصرف.
وعندي أن سبب ذلك يعود لعدم تعاطيهم هذا العلم ، ولعدم ممارستهم إيّاه ، كما أفاده «محمد بن الطيب الفاسي» ـ ١١٧٠ ه ، شيخ «الزبيدي» صاحب «تاج العروس» ، لذا نجد الإمام «ابن مالك» يكثر الاستشهاد بالحديث ، وما ذلك إلا لأنه أمّة في الاطلاع على علم الحديث (١).
أما التحرز الديني ونظرة التنزيه والتقديس فغير وارد البتة ؛ لأننا مأمورون بفهم القرآن والحديث ومعاطاتهما.
وأما تعليل المتأخرين من أن سبب انصراف القدامى عن الاحتجاج بالحديث يعود إلى الرواية بالمعنى ، واللحن في المتن ، فتعليل فيه وجهة نظر إلى حدّ ما ؛ فقد ذهب فريق من العلماء إلى جواز الرواية بالمعنى ، وقد قال «سفيان الثوري» : «إنما نحدثكم بالمعاني» ومنعها فريق آخر.
أما اللحن في المتن ، فقد وردت نصوص مرفوعة للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تخالف تعابيرها ما شاع من استعمال البصريين ، كحديث : «إن قعر جهنم سبعين خريفا» ، وحديث : «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» ، وحديث : «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» ، في بعض الروايات ، وغيرها من الأحاديث. فتوهّم من لا دراية له بلهجات العرب ولغاتها أنه لحن.
ونحن لا نعذر القدامى في عدم احتجاجهم بالحديث ، ولكن عدم ممارستهم لهذا الفن الجليل صرفهم عن الاحتجاج به. وفاقد الشيء لا يعطيه. والله أعلم.
__________________
(١) «بغية الوعاة» ١ : ١٣٤.