فرفع «مجلف» على الاستئناف ، فكأنه قال : أو مجلف كذلك ، وهذا كثير في كلامهم.
والوجه الثاني : أن تجعل قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ٦٢] خبرا للصّابئين والنّصارى ، وتضمر للذين آمنوا والذين هادوا خبرا مثل الذي أظهرت للصابئين والنصارى ؛ ألا ترى أنك تقول «زيد وعمرو قائم» فتجعل قائما خبرا لعمرو ، وتضمر لزيد خبرا آخر مثل الذي أظهرت لعمرو ، وإن شئت أيضا جعلته خبرا لزيد وأضمرت لعمرو خبرا آخر.
وقال الشاعر ، وهو بشر بن أبي خازم :
[١١٤] وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم |
|
بغاة ، ما بقينا في شقاق |
______________________________________________________
جميعا من غير تغيير في صدر البيت ، وخرجها ابن الأعرابي على أن التقدير : لم يدع من المال إلا أن يكون مسحت أو مجلف ، قال : وهو نظير قول شعيب بن البرصاء :
ولا خير في العيدان إلا صلابها |
|
ولا ناهضات الطير إلا صقورها |
برفع «صلابها» على تقدير : إلا أن يكون صلابها ، ورفع «صقورها» على أن يكون التقدير : إلا أن يكون صقورها. ومن ذلك أن عيسى بن عمر روى البيت بكسر الدال من «لم يدع» على أن معناه يقر ويمكث ، وبرفع مسحت ومجلف على أن الأول فاعل والثاني معطوف عليه ، وخرجه على ذلك ابن جني في الخصائص.
وبعد ؛ فقد قال ابن قتيبة : ومن ذا الذي يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه.
[١١٤] هذا البيت ـ كما قال المؤلف ـ لبشر بن أبي خازم ، وقد أنشده سيبويه (١ / ٢٩٠) واستشهد به ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٢٦) وأنشده رضي الدين في شرح الكافية في باب الحروف المشبهة بالفعل ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣١٥) وبغاة : جمع باغ ، وهو هنا بمعنى طالب ، تقول : بغيت الشيء أبغيه بغيا ، تريد طلبته ، و «ما» مصدرية ظرفية ، وفي شقاق : أي في اختلاف ، والاستشهاد بالبيت في قوله «أنا وأنتم بغاة» حيث وقع الضمير المنفصل الذي يكون في محل الرفع بعد اسم أن وقبل ذكر خبرها ، وقد تمسك بظاهر هذا الفرّاء وشيخه الكسائي فقالا : يجوز أن يعطف بالرفع على اسم إن قبل أن يذكر الخبر ، فتقول : إنني ومحمد على وفاق ، ولم يرتض سيبويه ذلك ، وقال : إن الكلام مؤلف من جملتين : إحداهما : إن واسمها وخبرها ، والثانية : هذا الاسم المرفوع المتوسط بين اسم إن وخبرها فهو مبتدأ وخبره محذوف ، والجملة معطوفة على جملة إن واسمها وخبرها ، وأصل مكان هذا الاسم المرفوع بعد خبر إن ، لكن الشاعر في هذا البيت قد قدمه ، وأصل الكلام : وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، وأجاز الأعلم وجها آخر ، وهو أن يكون خبر إن محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، و «بغاة» المذكور خبر المبتدأ الذي هو «أنتم» فيكون الشاعر قد حذف من الجملة الأولى لدلالة ما في الجملة الثانية على المحذوف ، وعلى الوجه السابق يكون الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه ، وهو أفضل من تقدير الحذف من الأول.