بقوله (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) ومحمد صلىاللهعليهوسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر أمته (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» فلا جرم يقول موسى يوم القيامة «نفسي نفسي» ومحمد يقول «أمتي أمتي». ثم قال (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ) هي جمع المأربة بضم الراء الحاجة وقد تفتح الراء. وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضا ومثله الأرب بفتحتين والإربة بكسر الهمزة وسكون الراء. وإنما قال (أُخْرى) لأن المآرب في معنى جماعة ونظيره الأسماء الحسنى. ومن آياتنا الكبرى قالوا : إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فتطول مكالمته وقالوا : انقطع بالهيبة كلامه فأجمل. وقيل : في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والجراب وغيرها ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصله بها ، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل : إن موسى عليهالسلام كان أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال : إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ولكنك لما سألت عنها وكلمتني بسببها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى. وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين بالليل ، وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب ، وكانت تقيه الهوام. قلت : هذه الخوارق إن كانت بعد نبوة موسى فلا كلام ، وإن كانت قبلها ففي صحة الرواية بعد وإلا كان الأنسب تقديمها عند تعدد المنافع. وعلى تقدير صحتها فلعلها إرهاص أو من معجزات شعيب على ما يروى أنه كان قد أعطاها إياه.
قال أهل النكت : إن موسى لما قال (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أراد الله سبحانه أن يعرّفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها و (قالَ أَلْقِها يا مُوسى) وبوجه آخر كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا ، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب ، فأمر بتركهما تنبيها على أن السالك مادام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلا بنفسه وطالبا لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان. وفيه أن موسى عليهالسلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا ، فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟! قال الكلبي : الاستطاعة قبل الفعل لأن القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يده فذاك قولنا ، أو توجد وهي خارجة عن يده وذلك تكليف بأنه يلقي من يده ما ليس في يده. ويمكن أن