والبحث ولم يزل طائفة يحفظونه ويدرسونه ويكتبونه في القراطيس باحتياط بليغ وجد كامل حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن في حرف من كتاب الله لقال له بعض الصبيان : أخطأت. ومن جملة إعجاز القرآن وصدقه أنه سبحانه أخبر عن بقائه محفوظا عن التغيير والتحريف وكان كما أخبر بعد تسعمائة سنة فلم يبق للموحد شك في إعجازه. وهاهنا نكتة هي أنه سبحانه تولى حفظ القرآن ولم يكله إلى غيره فبقي محفوظا على مر الدهور بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم ووقع التحريف.
ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء كذلك ، والغرض تسلية النبي صلىاللهعليهوسلم. وفي الكلام إضمار والتقدير (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) رسلا إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. ومعنى (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في أممهم وأتباعهم وقد مر معنى الشيعة في آخر «الأنعام» قال جار الله : معنى أرسلنا فيهم جعلناهم رسلا فيما بينهم. قال الفراء : إضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] و (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] وقوله (وَما يَأْتِيهِمْ) حكاية حال ماضية. وإنما كان الاستهزاء بالرسل عادة الجهلة في كل قرن لأن الفطام عن المألوف شديد وكون الإنسان مسخرا لأمر من هو مثله أو أقل حالا منه في المال والجاه والقبول أشد ، على أن السبب الكلي فيه هو الخذلان وعدم التوفيق من الله سبحانه ووقوعهم مظاهر القهر في الأزل. قوله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) السلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط. وقالت الأشاعرة : الضمير في (نَسْلُكُهُ) يجب عوده الى أقرب المذكورات وهو الاستهزاء الدال عليه (يَسْتَهْزِؤُنَ) وأما الضمير في قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) فيعود إلى الذكر لأنه لو عاد إلى الاستهزاء وعدم الإيمان بالاستهزاء حق وصواب لم يتوجه اللوم على الكفار ، ولا يلزم من تعاقب الضمائر عودها على شيء واحد وإن كان الأحسن ذلك. والحاصل أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى الأقرب إلا إذا منع مانع من اعتباره. وقال بعض الأدباء منهم : قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) تفسير للكناية في قوله (نَسْلُكُهُ) أي نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به فثبتت دلالة الآية على أن الكفر والضلال والاستهزاء ونحوها من الأفعال كلها بخلق الله وإيجاده. وقالت المعتزلة : الضميران يعودان إلى الذكر لأنه شبه هذا السلك بعمل آخر قبله وليس إلا تنزيل الذكر. والمعنى مثل ذلك الفعل نسلك الذكر في قلوب المجرمين. ومحل (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) نصب على الحال أي غير مؤمن به أو هو بيان لقوله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) والحاصل أنا نلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزأ به غير مقبول نظيره ما إذا أنزلت