الآية إلى قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣] جريا على سننه المرضى من خلط بيان التوحيد وذكر النصيحة والوعظ ببيان الأحكام ، ليكون كل منهما مؤكدا للآخر. الحكم الأول : بيان مصرف الإنفاق (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عن ابن عباس : نزلت الآية في رجل أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إن لي دينارا فقال : أنفقه على نفسك. فقال : إن لي دينارين. فقال : أنفقهما على أهلك. فقال : إن لي ثلاثة فقال : أنفقها على خادمك. فقال : إن لي أربعة قال : أنفقها على والديك. قال : إن لي خمسة قال : أنفقها على قرابتك. قال : إن لي ستة. قال : أنفقها في سبيل الله وهو أخسها أي أقلها ثوابا. وعنه في رواية أبي صالح أنها نزلت في عمرو بن الجموح وهو الذي قتل يوم أحد وكان شيخا كبيرا هرما وعنده ملك عظيم فقال : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ أما بحث «ماذا» فقد تقدم في قوله (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [المدثر : ٣١] وأما أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم فكيف طابق قوله في الجواب (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية. فالوجه فيه أنه حصل في الآية ما يكون جوابا عن السؤال ، وضم إليه زيادة بها يكمل المقصود. وذلك أن قوله (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) تضمن بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا إذا صرفت إلى جهة الاستحقاق. وقال القفال : السؤال وإن كان واردا بلفظ «ما» إلا أن المقصود هو الكيفية. فمن المعلوم لهم أن الذي أمروا بإنفاقه مال يخرج قربة إلى الله تعالى ، وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال كما طابق قوله (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) [البقرة : ٧١] سؤالهم عن البقرة ما هي ، حيث كان من المعلوم أن البقرة بهيمة شأنها كذا وكذا ، فتوجه الطلب إلى تعيين الصفة لا الماهية. وقيل : إنهم لما سألوا هذا السؤال أجيبوا بأن السؤال فاسد ، أنفق أي شيء كان ولكن بشرط كونه مالا حلالا ومصروفا إلى مصبه ، كما لو سأل شخص صحيح المزاج طبيبا حاذقا أي طعام آكل؟ والطبيب يعلم أنه لا يضره أكل الطعام أي طعام كان ، فيقول له : كل في اليوم مرتين أي كل ما شئت. لكن بهذا الشرط ، فكذا هاهنا المعنى لينفق أي شيء أراد ، لكن بشرط وهو أن يراعي الترتيب في الإنفاق فيقدم الوالدين لأنهما كالسبب لوجوده وقد ربياه صغيرا ، ثم الأقربين لأن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، الترجيح لا بدّ له من مرحج والقرابة تصلح للترجيح لأنه أعرف بحاله. والإطلاع على غنى الغني مما يحمل المرء على الإنفاق. وأيضا لو لم يعطه قريبه احتاج إلى الرجوع إلى غيره وذلك عار وشنار. وأيضا قريب المرء كجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الاكتساب