كبيت الأقيصر وبيت ذي الخلصة وبيت صنعاء وبيت نجران ، وغيرها من البيوت الحرام (١) ، فإن واحدا من هذه البيوت لم يجتمع له ما اجتمع لبيت مكة ، ذلك لأن مكة كانت ملتقى القوافل بين الجنوب والشمال وبين الشرق والغرب ، وكانت لازمة لمن يحمل تجارة اليمن إلى الشام ، ولمن يعود من الشام بتجارة يحملها إلى شواطئ الجنوب ، وكانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها ، ولم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو في رحلاتها ، فليست في مكة دولة كدولة التبايعة في اليمن ، أو المناذرة في الحيرة ، أو الغساسنة في الشام ، وليس من وراء أصحاب الرئاسة فيها سلطان كسلطان دولة الروم أو دولة فارس أو دولة الحبشة وراء الامارات العربية المتفرقة على الشواطئ أو بين بوادي الصحراء ، فمكة إذن مثابة عبادة وتجارة ، وليست حوزة ملك يستبد بها صاحب العرش ولا يبالي من عداه ، وهي إن لم تكن كذلك من أقدم أزمانها ، فقد صارت إلى هذه الحالة بعد عهد جرهم والعماليق ، الذين روى عنهم الرواة أنهم كانوا يشرون كل ما دخلها من تجارة (٢).
أضف إلى ذلك أن مكة كانت عربية لجميع العرب ، ولم تكن كسرية أو قيصرية ، ولا تبعية أو نجاشية ، كما عساها كانت تكون لو استقرت على مشارف الشام أو عند تخوم الجنوب ، ولهذا تمت لها الخصائص التي كانت لازمة لمن يقصدونها ويجدون فيها من يبادلهم ويبادلونه على حكم المنفعة المشتركة ، لا على حكم القهر والإكراه (٣).
__________________
(١) ياقوت ١ / ٢٣٨ ، ٣ / ٤٢٧ ، ٤ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥ ، ٥ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، بلوغ الأرب ١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧ ، ٢ / ٢٠٢ ، ٢٠٧ ـ ٢٠٩ ، ٢١٢ ، ابن حزم ، جمهرة أنساب العرب ص ٤٩٣ ، كتاب الاصنام ص ٣٨ ، البكري ٢ / ٦٠٣ ، الروض الآنف ١ / ٦٦ ، تاج العروس ٣ / ٣٩٧ ، ابن حبيب : كتاب المحير ص ٣١٧
(٢) العقاد : مطلع النور ص ١١٢ ـ ١١٣
(٣) نفس المرجع السابق ص ١١٣