وقد أرشدنا هدى الدين إلى أن النفوس يجب أن تكون كريمة فى ذاتها مهما ألحّ عليها الفقر وأن تتعود الإحسان بقدر الطاقة لتسمو عن الرذائل التي قد تجرها إليها الحاجة ، فتبعد بقدر الإمكان عن ذل السؤال ، ومدّ الأيدى إلى الناس ، لطلب الإحسان ، وإراقة ماء الوجه أمام بيوت الأغنياء ، لما فى ذلك من الذلة والصغار وهى ما لا يرضاها مؤمن لنفسه يعتقد أن الأرزاق فى قبضة الله وهو الذي يعطى ويمنع ، وقد جعل لكسب المال أوجها كثيرة يستطيع المرء أن يسعى إليها ليحصل عليه ، وقد وردت أحاديث كثيرة فى الحض على اكتساب المال من كل طريق حلال ، والبعد عن ذل السؤال.
إلا أن بذل القليل من الأفراد والجماعات إذا اجتمع صار كثيرا ، ومن ثم كانت الأمم الراقية تقيم مشروعاتها النافعة للأمة فى الزراعة أو الصناعة أو فى بناء الملاجئ والمستشفيات بالتبرعات القليلة التي تؤخذ من أفرادها ، وبذا تقدمت فى سائر فنون المدنية والحضارة.
ولذا حث الله على بذل الخير ولو قليلا بقوله : «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ، سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً».
ومن هذا ترى أن الله جعل من أهم علامات التقوى بذل المال ، كما أن الشح به علامة عدم التقوى ، والتقوى هى السبيل الموصل إلى الجنة.
فانظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون أيديهم عن بذل المعونة للأفراد والجماعات ويكنزون فى صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، هل تغنيهم صلاتهم وصومهم شيئا مع هذا الشح البادي على وجوههم؟ فما هى إلا حركات وأعمال ، مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع فى نفوسهم ، إذ الصلاة التي يقبلها الله ، والصوم الذي يرضاه الله ، هو ما ينهى عن الفحشاء والمنكر ، وأىّ منكر أشد من الضنّ بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو فرد.