وأخرج ابن بطة عن أحمد بن حنبل قال : حدّثني علي بن بحر ، قال : سمعت جرير بن عبد الحميد يقول : كان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع ، والعلاء بن المسيب ، وابن شبرمة ، وسفيان الثوري ، وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات ، يقولون : « نحن مؤمنون إن شاء الله » ، ويعيبون مَن لا يستثني (١).
وهذا كله ناشئ من شكّهم في أنهم مؤمنون كما لا يخفى ، مع أن الإيمان لا بد أن يكون عن جزم ويقين ، ولا يكون بالشك والظن والتخمين.
وقال ابن بطة : ولكن الاستثناء يصح من وجهين : أحدهما : نفي التزكية ، لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله ... ويصح الاستثناء من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال ، وعلى الخاتمة ، وبقية الأعمال ، ويريد أني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين ، وإن كنت عند الله مثبتاً في ديوان أهل الإيمان ، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمراً يدوم لي ويبقى عليَّ حتى ألقى الله ، و لا أدري هل أصبح وأمسي على الإيمان أم لا ... فأنت لا يجوز لك إن كنت ممن يؤمن بالله وتعلم أن قلبك بيده ، يصرفه كيف شاء ، أن تقول قولاً جزماً حتماً : إني أصبح غداً كافراً ولا منافقاً. إلا أن تصل كلامك بالاستثناء ، فتقول : إن شاء الله. فهكذا أوصاف العقلاء من المؤمنين (٢).
أقول : هذا عين الشك في الإيمان ، لأن مورد النزاع هو هل أنا الآن متَّصف بالإيمان أم لا ، وهذا أمر وجداني يشعر به كل مؤمن ، ويدرك في نفسه أنه معتقد بالحق جازم به ، وأما ما يكون في مستقبل الأيام فلا علم لنا به ، فلا ينبغي لمؤمن أن يقول : « أنا سأبقى مؤمناً إلى ما بعد سنة » ، لأن هذا أمر غيبي لا نجزم به ، ولا طريق لنا إلى معرفته ، فلا يصح هذا القول من هذه الجهة
__________________
(١) المصدر السابق ٢ / ٨٧١.
(٢) المصدر السابق ٢ / ٨٦٥ ـ ٨٦٦.