الشرارة
والشرارة! إنَّها مِن الاحتكاك ، وهي لا
تتعدَّى كونها قبساً يتمادى في تواصله ، حتَّى يُصبح النار التي تُدفِّأ ضلوع
الأرض ، وتُمرع فيها براعم الزهر وأفواج السنابل ، فالحياة ـ وهي ملقط مِن ملاقط
الوجود ـ إنَّما هي الشرارة الخالدة ، التي ينبض بها هذا الكون ، وإذ تخبو ، فالوجود
كلُّه في سُبات كالرماد ، ينخطف منه اللون والنخوة والدم الذي يمور!
ما أروع الحسين في جهازه النفسيِّ
المتين! يتلقط بكلِّ حَدث مِن الأحداث التي دارت بها أيَّامه ، ليصوغ مِن احتكاكها
الشرارة الأصيلة التي تدفأ بها ضلوع الأُمَّة ، وهي تمشي دروبها في ليالي الصيغ ـ
لقد تبيَّن له ـ وهو يختبر وطأة الأيَّام في تنقُّلها عِبر الفصول ، وعِبر الليالي
الطويلة والقصيرة ، وعِبر الأيَّام تُحرقها الشموس ، أو تُضنيها مقاطع الغيم. إنَّ
الشبه قريب جِدَّاً بين حياة الأُمَّة ، فالفرد الذي يحتاج قميصاً مِن صوف في ليل
الزمهرير ، لابُدَّ له أنْ يتعرَّى منه في اليوم الهجير ، وكذلك الأُمَّة بالذات ،
فالحرير الذي تنام في وقت النعيم ، هو الذي لا يليق لها ، ويُضنيها يوم يشتدُّ
عليها البؤس أو يستبدُّ الضيم ، والقول هذا يعني : أنَّ نوعاً واحداً مِن اللباس
لا يسدُّ حاجة الفرد ، مع تقلُّب الفصول مِن شمس تُحرق إلى صقيع يَلسع ، إلى
اعتدال يتبرَّأ مِن المُتناقضين ويتطلَّب حياكة ألبق وأنسب ، وكذلك الأُمَّة
بالذات ـ وهي الفرد الكبير المُتقمِّص ذاته حتَّى لا يموت ـ فإنَّ نوعاً واحداً
مِن تعهُّد العيش لا يسدُّ حاجتها في البقاء الطويل ، الذي هو اجتماع ينهب الزمان
ليخلد فيها أطول فأطول. إنَّ الأُمَّة ـ الإنسان الاجتماعي ـ هي بحاجة أيضاً إلى
ألبسة منوَّعة الحياكة ، فتلبس كلَّ واحد منها ساعة تشعر أنَّها بحاجة إليه ، وتستبدله
بسواه في أيَّة لحظة أُخرى يطيب لها ذلك.