ومن هذا القبيل حسن الصوت في القراءة بل ونفس القراءة فإنّ استحبابهما إنّما هو من حيث خلوّهما عن الجهات الملزمة لتركهما لأنّه الظاهر من أدلّة استحبابهما وطروّ جهة الغنائيّة أو اللهويّة يعطيهما الحرمة بلا إشكال لانتفاء التعارض. وبالتأمّل فيما ذكرنا يظهر الجواب عن الاستدلال بعمومات القراءة فإنّها لا تقاوم أدلّة حرمة الغناء ، فإنّ المستحبّ هو القراءة من حيث خلوّهما عمّا يوجب لزوم أحد طرفي الفعل أو الترك فلا ينافيه التحريم من جهة لحوق عنوان الغناء.
ومنها : الغناء في المراثي ، وعن جامع المقاصد (١) «أنّه حكي استثناؤه قولاً» ولم يسمّ قائله ، ودليله على ما قيل عمومات أدلّة الإبكاء والرثاء. وعن المحقّق الأردبيلي أنّه ـ بعد ما وجّه استثناءه في المراثي بأنّه لم يثبت الإجماع إلّا في غيرها والأخبار ليست بصحيحة صريحة في التحريم مطلقاً ـ أيّده بأنّ البكاء والتفجّع أمر مطلوب مرغوب وفيه ثواب عظيم والغناء معين على ذلك وأنّه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير ، ثمّ أيّده أيضاً بجواز النياحة وأخذ الاجرة عليها ، والظاهر أنّها لا تكون إلّا معه وبأنّ تحريم الغناء للطرب على الظاهر وليس في المراثي طرب بل ليس إلّا الحزن (٢) انتهى.
والجواب : عن العمومات قد ظهر ممّا مرّ من أنّها لا تقاوم لمعارضة أدلّة تحريم الغناء حتّى ما تحقّق منه في المراثي ، ومرجعه إلى منع قضاء عمومها بجواز جهة الغناء المتحقّقة فيها ولا استحبابها ، وإطلاق الإجماعات المنقولة يعمّها أيضاً إن لم نقل بسبق الإجماع المحصّل على حدوث الخلاف ، وفي الأخبار ما هو صحيح صريح في التحريم مطلقاً كصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة ، وكون الغناء معيناً على البكاء والتفجّع أضعف شيء ذكر في المقام ، ولا يثبت به استحباب الغناء ، لمنع الصغرى تارةً ومنع الكبرى اخرى.
أمّا الأوّل : فلأنّ الغناء إن اريد به الصوت اللهوي فهو حيثما تخلّل في أثناء القراءة يختلّ به حالة البكاء والتفجّع عن المستمع فهو ممّا يزيل تلك الحالة لا أنّه يعين عليها ،
__________________
(١) جامع المقاصد ٤ : ٢٣.
(٢) مجمع الفائدة ٨ : ٥٩.