أهل مدينة ما غير مسدد نحو السعادة ، فانها تكسبهم هيئات ردية من هيئات النفس ، وتصير مرضى. فلذلك يلتذون بالهيئات التي يكتسبونها بأفعالهم ، كما أن مرضى الأبدان مثل المحمومين لفساد حسهم يستلذون الأشياء المرة ويستحلّونها ، يتأذون بالأشياء الحلوة وتظهر مرة في لهواتهم. كذلك مرضى الأنفس لفساد تخيلهم يستلذون الهيئات الردية ، وكما أن في المرضى من لا يشعر بعلته وفيهم من يظن مع ذلك أنه صحيح ، ومن هذه سبيله من المرضى لا يصغي إلى قول طبيب أصلاً. كذلك من كان من مرضى النفوس لا يشعر بمرضه ، ويظن مع ذلك أنه فاضل صحيح النفس. فانه لا يصغي أصلاً إلى قول مرشد ولا معلم ولا مقوم. فهؤلاء تبقى أنفسهم هيولانية غير مستكملة استكمالاً تفارق به المادة حتى إذا بطلت المادة بطلت هي أيضاً. ١
وقد حمل بعضهم ٢ هذه الفترة التي نقلناها عن السياسة المدنية أنها للنفوس الشقية ، ولكن هذه الفقرة تنطبق على ما ذكره المعلم الثاني عن النفوس الجاهلة بالاضافة إلى عدم انطباق تعريفه للنفوس الشقية على هذه الفقرة.
ما هو المقصود الفارابي من بطلان وانعدام النفوس الجاهلة ؟
رأي المعلم الثاني عن النفوس الجاهلة هو السبب في اتهامه من قبل كثيرين بالتردد في رأيه حول خلود النفس ، ولنرى ما هو مقصود الفارابي من بطلان النفوس ، هل هو البطلان والانعدام مطلقاً ، أم أن مقصوده شيء آخر ؟
المعلم الثاني ذكر في نصوص عديدة متناثرة في كتبه ، وصرح بخلود النفس ، قال في ( الدعاوي القلبية ) : وإنها ـ أي النفس ـ مفارقة باقية بعد موت البدن ، ليس فيها قوة قبول الفساد. وإن بها بعد المفارقة أحوالاً ، إما أحوال
________________
١. السياسة المدنية ، ص ٨٢ ، ٨٣
٢. راجع : د. ابراهيم العاتي ، الانسان في فلسفة الفارابي ، ص ١٠٤.