قيل : نعم لكن ينتقل السؤال حينئذ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخلية والعوامل فما هي العلة في اختلافها المؤدية إلى اختلاف الآثار؟ وتنتهي بالأخرة إلى المادة المشتركة بين الكل المتشابهة الأجزاء ، ومثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود فليس إلا أن هناك سببا فوق هذه الأسباب أوجد هو المادة المشتركة ، ثم أوجد فيها من الصور والآثار ما شاء ، وبعبارة أخرى هناك سبب واحد ذي شعور وإرادة تستند هذه الاختلافات إلى إراداته المختلفة ولولاه لم يتميز شيء من شيء ولا اختلف في شيء هذا.
ومن الواجب على الباحث المتدبر في هذه الآيات أن يتنبه أن استناد اختلاف الخلقة إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالا لقانون العلة والمعلول كما ربما يتوهم فإن إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا حتى تتغير ذاته بتغير الإرادات بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله ومنتزعة من العلل التامة للأشياء فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتى يوافيك توضيحه في محل يناسبه إن شاء الله.
ولما كانت الحجة مبنية على مقدمات عقلية لا تتم بدونها عقبها بقوله : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ».
وقد ظهر من البيان المتقدم أن نسبة اختلاف الأكل إليه تعالى من غير ذكر الواسطة أو الوسائط مثل نسبة رفع السماء بغير عمد مرئية ومد الأرض وجعل الجبال والأنهار إليه تعالى بإسقاط الوسائط ، والمراد بذلك تنبيه فطرة السامعين لتنتزع إلى البحث عن سبب الاختلافات وتنتهي بالآخرة إلى الله عز من سبب.
وفي الآية التفات لطيف من الغيبة إلى التكلم بالغير وهو ما في قوله تعالى : « وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ » ولعل النكتة فيه تعريف السبب الحقيقي بأوجز بيان كأنه قيل : ويفضل بعضها على بعض في الأكل وليس المفضل إلا الله سبحانه ثم عرف المتكلم نفسه وأظهر بلفظ التعظيم أنه هو السبب الذي يبحث عنه الباحثون وإلى حضرته ينتهي هذا التفضيل ثم أوجز هذا التفضيل فقيل : « وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ » ولا يخلو التعبير بلفظ المتكلم مع الغير عن إشعار بأن هناك أسبابا إلهية دون الله سبحانه عاملة بأمره ومنتهية إليه سبحانه.