النافعة ، من الديانيَّات واللِّسانيَّات ، فسَلك مناهِجَها ، وشَهَر (١) بمُقدّماتها نتائجَها ، وذلَّل من صِعابها ، وأخضع بفهمه من صِيدِ رِقابها ، وعلم مُنتَهَى سِبارها (٢) ، ومَيَّز بالتأمُّل اللطيف طبقاتِ أقدارِها ، وَضَح له فضلُ هذا الكلام العربىِّ ، الذى هو مادة لكتاب الله جَلَّ وعزّ ، وحديثِ النبىّ صلىاللهعليهوسلم [ وشَرَّفَ وكرَّم ](٣) ، فلما وضَحَ له مكانُ الحاجة إلى هذه اللسان الفصيحة ، الزائدة الحُسْن ، على ما أُوتِيَه سائر الأمم من اللُّسْن ، أراد جمع ألفاظها ، فتأمَّلَ لذلك كتب رُوَاتها وحُفَّاظها ، فلم يجد منها كتاباً مستقلاً بنفسه ، مُسْتَغْنِياً (٤) عن مثله ، مما أُلِّف فى جنسه ، بل وَجَد كلّ كتاب منها يشتمل على ما لا يشتمل عليه صاحبه ، وشَلٌ [ لا ](٥) تعانَدُ عليه وُرَّادُه ، وكَلأٌ لا تَحَاقَدُ (٦) فى مثلِه رُوَّادُه (٧) ، لا تشبَع فيه نابٌ ولا فَطيمة (٨) ، ولا تُغْنِى منه خضراءُ ولا هَشيمة.
ثم إنه لَحَظَ مناظر تعبيرهم ، ومَسافِر تحبيرهم (٩) ، فما اطَّبِى (١٠) شىءٌ من ذلك له ناظرا ، ولا سَلك منه جَناناً ولا خاطرا ، وذلك لما أُوتِيَهُ وحُرِموه ، وأُوجِدَه وأُعْدِمُوه ، من ثَقابة النَّظَر ، وإصابة الفِكَر ، وكان أكثرَ ما نَقَمَه ـ سدّده اللهُ ـ عليهم ، عُدُولُهم عن الصواب ، فى جميع ما يُحتاج إليه من الإعراب ، وما أحوجهم من ذلك إلى ما مُنِعُوه ، وإن جَلَّ ما أُوتوه ، من علم اللغة ومُنِحوه ، فإن الكَحَل لا يغنى من الشَّنَب ، وإنّ فى الخمر معنىً ليس فى العِنب.
وأىُّ مُوَاقَفة أخْزَى لواقفها ، من مَقامَة أبى يوسفَ يعقوبَ بن إسحاقَ [ بن ](١١) السِّكِّيت ، مع أبى عثمانَ المازنىّ ، بين يدى أمير المؤمنين جعفرٍ المتوكل؟ وذلك أن أمير المومنين قال : يا مازنىُّ سَلْ يَعْقوبَ عن مسألة من النحو ، فتَلَكَّأ المازنىّ ، عِلْما بتأخر يعقوب فى صناعة الإعراب ، فعزم المتوكلُ عليه ، وقال : لابدّ لك من سُؤاله ، فأقبل المازنىّ يُجْهِد نفسه فى
__________________
(١) فى بعض النسخ : وبرهن.
(٢) السبْر : التجربة ، واستخراج كنه الأمر.
(٣) ما بين [ ] زيادة من بعض النسخ.
(٤) فى بعض النسخ : مغنيا.
(٥) ما بين [ ] زيادة أثبتها المحققان وافقناهم عليها ، والوشل من الأضداد فهو قليل الماء وهو كثير الماء والأنسب هنا أنه كثير الماء.
(٦) قوله تعانَدُ ، وتحاقَدُ ، أى : تتعاند ، وتتحاقد ، فخفف بحذف إحدى التاءين.
(٧) فى بعض النسخ : وكلأ لا تعاقد فيه قلة رواده.
(٨) الفطيمة : الشاة إذا فطمت ، والناب : الناقة المسنة.
(٩) التحبير : حسن الخط.
(١٠) طبيته عن الأمر : صرفته.
(١١) ما بين [ ] ليس فى المطبوع ، وما أثبتناه من ترجمته فى السير ( ١٢ / ١٦ ) ؛ وبغية الوعاة ( ٢ / ٣٤٩ ).